✍️ بقلم: ريتا الأبيض
صحفية وباحثة في الإعلام والعلاقات الدولية
في صباحٍ مزدحمٍ بالأخبار العاجلة، جلستُ إلى مكتبي أمام الشاشة، لأجد زميلًا جديدًا يجلس إلى جواري. لم يحمل دفتر ملاحظات، ولم يحتسِ فنجان القهوة، ولم يلقِ حتى تحية الصباح. كان اسمه “النظام”.
قدّمه رئيس التحرير بابتسامة عريضة قائلًا: “سيساعدك في كتابة الأخبار.”
ابتسمتُ بتكلفٍ، متسائلة في داخلي: كيف يمكن لآلة أن تكتب ما نعيشه نحن؟ أو أن تصف ما نراه بأعيننا؟ لكنني فضّلت الصمت لأراقب.
كانت الآلة لا تعرف التعب، تكتب تقريرًا اقتصاديًا من عشر صفحات، منظمًا بدقة تُحسد عليها، وكأنه من إعداد خبيرٍ متمرس، ومع ذلك تم إنجازه في دقائق.
نظر إليّ رئيس التحرير وقال بحماس: “انظر إلى السرعة!”
أومأت برأسي، وأنا أتابع سطورًا بلا أخطاء… لكنها بلا روح. أدركت حينها أن ما يمنح النص حياةً ليس كماله اللغوي، بل تلك اللمسات البشرية التي تنبض بالعاطفة، حتى وإن حملت بعض الهفوات.
حين تصبح الأسئلة أهم من الإجابات
ذلك اليوم علّمني أن الصحافة ليست ما نعرفه، بل ما نبحث عنه.
الآلة تجيب، لكنها لا تسأل.
هي تولّد الحقيقة الرقمية، لكنها لا تهتم بغايتها.
أما نحن، فنتغذى على التساؤلات، ونحملها كوقودٍ في رحلةٍ نحو المجهول. نتعثر، ونتعلم، ونواصل. الذكاء الاصطناعي لا يعرف هذا القلق الجميل، ولا الشغف الذي يجعل الصحفي يعيش كل قصةٍ وكأنها الأولى.
الأخبار ليست أرقامًا فقط
قبل أيام، كنت أكتب عن عاملٍ فقيرٍ أنقذ طفلًا من حريقٍ ونال تكريمًا رسميًا.
الآلة أعدّت تقريرًا دقيقًا بالأسماء والتواريخ والتصريحات.
أما أنا، فجلستُ أستمع إلى الرجل وهو يروي لحظة دخوله النيران، إلى صوته المرتجف، وإلى الدمعة التي قاومها.
عندها فقط أدركت أن الأخبار لا تُكتب بالكلمات وحدها، بل تُشعر أيضًا.
الآلة صديقٌ حين تعرف مكانها
لا أكره الذكاء الاصطناعي، ولا أراه عدوًا.
إنه زميلٌ لا يكلّ ولا يشتكي، لكنه يجب أن يبقى خلف الشاشة لا أمامها.
يساعد في جمع الحقائق وتذكّر التفاصيل، لكنه لا يدرك معنى كلمةٍ قد تغيّر مصير إنسان.
حين تموت الروح… يموت الكبرياء
أسوأ ما قد يصيب الصحافة أن يتحوّل الصحفي إلى آلة.
أن يكتب دون عاطفة، أو شغف، أو دهشة.
عندها تفقد المهنة جوهرها، وتتحول إلى تكرارٍ ميكانيكيٍ بلا معنى.
فالآلة لا تعرف لماذا يجب أن تُقال الحقيقة، ولا تشعر بثقلها حين تُنطق.
أما نحن، فنكتب لأننا نشهد، ولأن وراء كل كلمة حياة.
الخاتمة: نحن والآلة
بعد شهورٍ من التعايش مع “النظام”، أدركت أننا لسنا في منافسة.
الآلة تكتب أسرع، لكننا نكتب أعمق.
هي تشرح ما حدث، ونحن نحاول أن نفهم لماذا حدث.
وفي هذا الفارق الصغير تكمن إنسانية الصحافة… وتتنفس.

























