مينا إديتورز
يقولون: “إن للصحافة الاستقصائية قدرة لا تُضاهى على ربط مسؤولين بقضايا فساد” ومن هنا جاءت أهميتها كفن صحفي يسبر أغوار قضايا الفساد السياسية والاجتماعية ابتغاء تجلية حقيقتها أمام الرأي العام ومن ثم تتبنى نتائجها الجهات المختصة وبدء التحقيق مع المتورطين فيها. هي صحافة العمق كما أطلق عليها الصحفي الأمريكي “سيمور هيرش” صاحب كتاب الخيار شمشمون الذي كشف فيه عن ترسانة إسرائيل النووية، وقد وصف هيرش الصحافة الاستقصائية بأنها صحافة المستقبل، وأطلق عليها سنودن أنها صحافة استعادة الواقع من الأشخاص المتنفذين”.
في الصحافة الاستقصائية يوجد مصطلح whistleblower أو “مطلق الصفارة” وكثيرا ما تبنى التحقيقات الكبيرة على معلومات يقدمها مطلق الصفارة لأحد الصحفيين، في كثير من الأحيان يطلب مطلق الصفارة عدم ذكر اسمه أو معلومات حوله مما يجعل الصحفي ملزما مهنيا وأخلاقيا بالحفاظ على سرية مصدره مهما بلغت التحديات، إنه عهد لا بد من الوفاء به. يلعب مطلقو الصفارة (المبلّغون) دوراً جوهرياً في كشف الفساد والاحتيال وسوء الإدارة وغيرها من الاعتداءات التي تهدد الصحة والسلامة العامتين، والنزاهة المالية، وحقوق الإنسان، والبيئة والقانون.
إذ يطلق مصطلح “مُطلق الصفارة” على المُبلِّغ الذي يقوم بالإفصاح عن معلومات متعلقة ببعض الأفعال المجرّمة المتضمنة جرائم فساد خلافاً للقانون، فكل فعل ونشاط يهدد الصالح العام ويثير المخاوف يستوجب المتابعة والملاحقة. فمن الضروري حمايتهم من خلال وجود تشريعات قوية تضمن تجنبهم الأفعال الانتقامية كالطرد، وعدم تجديد عقود عملهم، والتهميش، والتهديد، فحماية المبلغين ستسهل الإبلاغ الفعال عن الفساد، وتعزز الانفتاح وتحمل المسؤولية في أماكن العمل الحكومية والمؤسسية.
مطلق الصفارة قد يأتي إلى الصحفي متخفيا لحماية نفسه، مثل الرجل الذي كان وراء تسريبات وثائق بنما حيث تواصل شخص يدعى “جون دو” مع صحفي ألماني وقال له هل تريد سبقا صحفيا؟ وعندما تواصل معه الصحفي وحصل على الوثائق وجد أن الأمر ليس مجرد معلومات تخص ألمانيا فقط بل أكبر من ذلك بكثير، وقد كانت كذلك بالفعل، فعمل الصحفي على إشراك منظمة ICIJ والصحف الكبرى والصحفيين من حول العالم. أفعال كثيرة قد تجعل شخصا عاديا، يكون سببا في فضح أكبر عمليات الفساد أو أفظع انتهاكات ضد القانون وحقوق الإنسان. قد يكون السبب إرضاء الضمير، وقد يكون الشخص ذاته ضحية، وقد يكون بدافع الانتقام أو تصفية الحسابات.
بغض النظر عن الدوافع تسارع الدول التي تحترم نفسها وتحترم القانون والمواطن، في التحقيق في كل ما تنشره الصحافة الاستقصائية ومن يعرفون ب”مطلقي الصفارة” بينما يختلف الأمر في كثير من دول العالم الثالث، حيث تتوجه الأنظمة مباشرة إلى سجن هؤلاء والتضييق عليهم وقطع أرزاقهم، لقد حصل ذلك مع صديق لي صحفي في دولة بنين وسجن ستة أشهر، بسبب تدوينة على الفيس بوك، وحصل قبل أيام قليلة مع رئيس المنظمة التي أنا عضو فيها CENEZO وهو صحفي من نيجيريا حيث حكم عليه بالسجن شهرين مع وقف التنفيذ بعد مسار طويل من التقاضي، بسبب تحقيق حول تجارة المخدرات.
قد يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك …قد يصل إلى القتل بدم بارد حدث ذلك مع صحفية شاركت في وثائق بنما من دولة ملطا، وحصل مع آخرين.. رغم أنه هناك قاعدة في الصحافة الاستقصائية تقوله بأنه ليست هناك قصة تستحق أن نموت من أجلها… غير أن كل تلك المضايقات لا تزيد الصحفي الاستقصائي أو مطلق الصفارة، إلا شهرة وتأثيرا، خاصة إذا كان صاحب علاقات وعمل مع مؤسسات صحفية ومنظمات تدافع عن الصحفيين، ولا يزيد الحكومات إلا زيادة في سوء السمعة وتصدرا لقائمة البلدان القمعية، سواء ظل على قيد الحياة أو تم تغييبه.
تحتاج البلدان النامية، والأنظمة التي تضع في مقدمة شعاراتها محاربة الفساد وتجسيد الديموقراطية، إلى النظر للصحفيين الاستقصائيين ومطلقي الصفارة بزاوية مختلفة، فهؤلاء ليسوا أعداء ولا مخربين، وإنما يمكن التعامل معهم على أنهم شركاء في عملية تحقيق هذه الأهداف السابقة، لأنه ببساطة الهدف واحد وإن اختلفت الأساليب. كما على الحكومات التي ترى في خيار القمع، طريقا إلى الحد من كشف مالا تريد له أن يكشف، عليها أن تدرك أن هؤلاء الذين يقررون أن يسلكوا ذلك الطريق، قد عرفوا مآلته لا محالة، ووصلوا إلى مرحلة من التصالح مع الذات ومع النفس، تجعلهم قادرين على التأقلم مع أي موقف، سواء السجن أو الإبعاد أو التضييق.. يمتلك هؤلاء نفسيات خاصة معقدة، تختلف عن نفسيات من يحسبون الأمور بحسابات الربح والخسارة.