كتب الصحفي المصري الأستاذ: محمد البطاوي.. كلمات أفصحت عما يجول في خاطره مودِّعاً بها صديقه الصحفي محمد أبو الغيط، الذي وافته المنية مؤخراً إثر مرض عضال، معنوناً إياها بـ (وسكن الألم)، وفيما يلي النص كاملاً:
(ها قد سكن ألمك أخيرا يا صديقي، توقفت آهاتك التي كانت تمزق نياط قلوبنا دون أن نسمعها، انطلقت رحلتك نحو الضوء الذي بشرتنا به. ليت ذلك الضوء غمر قلوبنا ليخفف عنا حزن فراقك ويهدئ آلام الرحيل.
وداعا محمد أبو الغيط الذي عرفته من نقرات أنامله التي أرهقها المرض، وأنهكتها الغربة، لكنها رغم كل ذلك لم تتخل عن ذلك الإبداع الحزين، عن ذلك الألم الدفين في كل عبارات الأمل البهيجة.. لم أقو طيلة يومين أتابع فيها نشيج كتابات التعازي إلا الصمت كأني في حضرة عزائه وإن تباعدت المسافات.
لست أدري؛ أيمكن للمرء أن يفرح بانتهاء معاناة الحبيب حتى وإن كان ذلك يعني أنه لن يراه مجددا؟ أيمكن أن يتمنى استمرار الألم لعزيز عليه فقط لأن ذلك يعني بقاء ولو مسحة الأمل بطول بقائه أو إمكان شفائه؟ كيف يمكن أنه في اللحظة التي يسكن فيها الألم يموت الأمل أيضا!
يا راحلا نحو الضياء تمهل.. فلم نرو بعد من كلماتك الغامرة بفرحة في وسط أحزاننا، وعقل في خضم مشاعرنا، وصدق في عوالم أكاذيبنا، ولا أجد ككلمات ابن حزم الأندلسي “فهل للوصال إلينا معاد؟ وهل لتصاريف ذا الدهر حد؟”.
يا راحلا نحو الضياء جد بالقليل بعد من كلماتك العطرة، وأخلاقك الدمثة، فقد كان العالم بوجودك أجمل، فهل وجدت في ذلك الضوء البعيد وطنا دافئا بدلا عن برد الغربة، وأصدقاء أوفياء عوضا عن غدر الزمان، وعافية وسلاما تنسيك آلام السقم؟ لعلك وجدت كل ذلك يا صديقي في رحلتك الأخيرة.
لعلك وجدت الأنس أيضا يا صديقي تستعيض بها عن وحدة الغربة والبعد عن الأصدقاء والأحباب واعتقال الأقارب والأنساب، لا أنسى كيف كان صوتك هادئا ودافئا يؤنسني في شتاء الغربة عبر “بودكاست”، صوت يأتيني من الوطن وإن كان مغتربا، ولا شيء يؤنس الغريب كغريب مثله. ولا شيء أقسى على غريب من مشهد غريب مثله يوارى ثرى أرض غريبة وديار بعيدة.
يا أبا يحيى، أما إنك قد كتبت لتحيا، وإنك إذ إلى الضوء رحلت، فإن كلماتك وفدت علينا بضوء آخر، وإنك يوم أن أعلنوا خبر وفاتك أنكر قلبي ذلك وخط برسم حزين: “بل محمد على قيد الحياة”، وكيف يموت من كلماته فينا تحيا.
عشت محبا لخوض التجارب، متحمسا للذهاب إلى الأماكن البعيدة، يحركك الفضول والشغف لاكتشاف الجديد، تسابق عمرك وكأنك تخشى أن يداهمك الوقت؛ لكن الوقت داهمنا نحن، وخضت سريعا غمار تجربة جديدة وسبقتنا إلى أنوار لم نرها.
ما أقساك أيها السرطان، كيف هان عليك أن تنهش في جسده الواهن إلى حد القتل.. ألم ترق حتى لكلماته التي وصفت تعايشه مع قسوتك ونضال زوجته لتغنم معه سويعات أطول وتخفف عنه من وطأة آلامك! كيف تابعت أشواكك التغول على خلاياه رغم كل ذلك الحب وهذا العرفان بالجميل.. لماذا لم تنهزم أمام كل هذه العذوبة التي تقطرها حروفه وكلماته؟!
عزاؤنا فيك أبا يحيى أن قلمك منذ أن خط إلى الضوء طريقه لم يكتب بمداد الظلام ولا للظالمين يوما، وأننا إن فجعنا في وفاتك فلم نفجع في أخلاقك ولا في رجولتك.. فإلى أنوار الله امض عليك منه سلام ورحمات).
رحم الله الأستاذ محمد أبو الغيط، وأسكنه فسيح جناته، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. للفقيد الرحمة ولأسرته ومحبيه خالص العزاء.