أسامة الرشيدي
بدأت العمل في الصحافة أثناء دراستي بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. وبعد تخرجي عام 2010، عملت لمدة 4 أعوام في مجال الأفلام الوثائقية، ثم اشتغلت في الصحافة الرقمية منذ أكثر من 7 سنوات حتى الآن. وخلال هذه المدة، اكتشفت أنني تعلمت دروسا عديدة من عملي، وهي دروس وخبرات لا تصلح للتطبيق في عالم الصحافة فقط، وإنما في الحياة بشكل عام.
ابدأ الآن وتحسن لاحقا
وجدت كتابا بهذا العنوان أثناء تجوالي في إحدى المكتبات. عندما رأيته للوهلة الأولى تذكرت الدرس الأهم الذي تعلمته من عملي في الصحافة. ففي عام 2015، بدأت العمل في موقع الجزيرة مباشر. كان الموقع بدائيا للغاية من الناحية التقنية، وكانت ميزته الوحيدة أنه يوفر بثا مباشرا للقناة لمن ليس لديه تلفاز أو لمن يريد متابعة القناة عبر جهاز الكمبيوتر أو المحمول، بالإضافة لأخبار قليلة عن تطورات الأحداث على مستوى العالم.
رغم ذلك، كانت هناك رؤية من الإدارة بضرورة الارتقاء بمستوى العمل في الموقع ليستطيع المنافسة في حلبة سباق جذب القراء العرب. ولذلك نقل بعض الصحفيين من أقسام القناة المختلفة للعمل في الموقع، وكنت أحدهم.
لم أكن متحمسا للتجربة بسبب المشاكل المذكورة، إضافة إلى حداثة تجربتي في العمل داخل غرف الأخبار آنذاك. فقد اقتصرت تجربتي في الصحافة الإلكترونية على العمل لمدة عامين في مواقع محلية صغيرة أثناء دراستي. وبعد التحاقي بالجزيرة، عملت لما يقرب من 10 أشهر في كتابة تقارير إخبارية تلفزيونية. ولذلك كانت تجربة العمل بالصحافة الرقمية في كيان عملاق مثل الجزيرة اختبارا صعبا أتلمس طريقي فيه.
ما زلت أتذكر الاجتماع الأول مع مسؤولي القناة الذين أرادوا تقديم محتوى جيد للجمهور ولو بأبسط الوسائل، وسيتأتى النجاح في الأخير. الحقيقة لم أقتنع وقتها بهذا الكلام، وتوقعت فشلا للتجربة، إذ لم نحصل على أي مواعيد محددة لحل المشكلات، ولم تكن هناك ميزانيات للدعم فيما يخص استقدام صحفيين جدد أو حتى لترويج المحتوى على مواقع التواصل، وهو أمر أساسي تقوم به معظم المواقع في هذه الأيام، لكن كانت الرؤية آنذاك أن المحتوى الأصلي والجيد سيسوق نفسه بنفسه دون الحاجة لأي إنفاق.
بدأنا العمل بالفعل واجتهدنا في تقديم محتوى مميز قدر الإمكان، وإذا بنا نتفاجأ بما حدث. فقد تحسن ترتيب الموقع وتضاعفت زيارات القراء له، حتى وصل إلى أن أصبح الأكثر نموا على مستوى الشرق الأوسط، ووصلت زيارات القراء إلى أكثر من 20 مليونا في شهر واحد! وجاء ذلك تزامنا مع بداية حل المشكلات التقنية وإنشاء نظام نشر جديد للموقع أفضل من سابقه. عندها تعلمت الدرس الأول والأهم في عالم الصحافة، وهو أن تبدأ العمل وتستمر فيه رغم أي معوقات، وسيأتي التحسن مع مرور الوقت. ففي بيئة الأخبار التي تتطلب تحركا سريعا لتغطية الأحداث المتلاحقة، ينبغي التصرف سريعا لإنتاج المواد الإخبارية بأشكالها المختلفة، وبينما يستمر العمل، يمكن تحسين الإمكانيات وتصحيح الأخطاء وحل أي مشكلات أخرى بالتوازي. أما من يستنكف عن العمل انتظارا لحل جميع المشكلات أولا، فسيبقى في مكانه ولن يتقدم خطوة واحدة. وحتى في بيئة العمل اليومية، فإنه من الأهمية بمكان المسارعة بنشر الخبر وفقا للمعلومات المتاحة، ثم يتم تحديث الخبر أولا بأول، لأن الانتظار في هذه الحالة يجعل كثيرا من القراء يذهبون إلى مواقع أخرى ليعرفوا منها آخر التطورات.
الجمهور ثم الجمهور
قديما، كانت هناك فترة زمنية كبيرة بين إنتاج المادة الإعلامية وتلقي ردود الأفعال عليها. لكن مع تطور التكنولوجيا وظهور الإنترنت، بدأت تقل، بعد ظهور إمكانية مراسلة الصحيفة أو كتّابها عبر البريد الإلكتروني. ثم تقلص الزمن أكثر مع ظهور خانة التعليقات أسفل المواد المنشور مباشرة. أما بعد انتشار مواقع التواصل، فقد اختفت المسافة الزمنية وأصبح التفاعل لحظيا.
رغم ذلك، تحتوي تعليقات وردود أفعال الجمهور على مواقع التواصل على عيوب. فنسبة كبيرة من رواد مواقع التواصل تكتب التعليقات أو ردود الأفعال (إعجاب أو غضب أو سخرية.. إلخ) اعتمادا على العنوان فقط دون الدخول إلى الموقع عبر الرابط المنشور. ولذلك قد يحصل منشور ما على ألف إعجاب مثلا، لكن عدد قراء الخبر يكون أقل بكثير، والعكس صحيح. وهو ما يعني أن تفاعل الجمهور على مواقع التواصل يظل سطحيا ولا يعطي مؤشرات دقيقة عن حجم القراءة أو المتابعة.
قد تكون التعليقات وردود الأفعال مفيدة للقائمين على صفحات مواقع التواصل الخاصة بالمؤسسة، حتى لو كان تفاعلا سطحيا كما أوضحنا. لكن بالنسبة للصحفي في الموقع الإلكتروني، فإنه يحتاج إلى أداة أخرى يستطيع من خلالها قياس التفاعل الحقيقي للجمهور، مثل عدد زيارات الموقع بشكل عام، والإحصائيات الخاصة بقراءات كل موضوع، والمدة الزمنية التي يمكث فيها القارئ داخل الموضوع الواحد، وغير ذلك.
لهذا السبب توفرت أدوات عديدة تساعد الصحفيين على قياس تفاعل الجمهور لحظيا مع المواد المنشورة بالشكل الدقيق المطلوب. ومع مرور الوقت، تكونت أفكار واضحة لدى فريق العمل عن ميول واتجاهات وتفضيلات جمهور موقع الجزيرة مباشر، فبعد نشر المادة مباشرة، يمكن رؤية عدد قرائها في كل لحظة، ومعدل قراءتها، مع ترتيب تلك الموضوعات حسب الأكثر قراءة، وبالتالي تتحرك الأخبار للأعلى والأسفل فيما يشبه حركة البورصة. ويكون دور المشرف التحريري هو متابعة تلك الحركة المستمرة واتخاذ القرارات التحريرية بناء عليها.
هذه المتابعة اليومية أكسبت فريق العمل على مر السنوات خبرات إدارية وتنفيذية ومهنية لا تقدر بثمن، خاصة في مجال معرفة اتجاهات الجمهور، وهو ما أفادنا كثيرا في عدة جوانب، مثل التعمق في تغطية موضوعات ومجالات وبلدان بعينها ثبت أن الجمهور يهتم بأخبارها أكثر من غيرها، وإنتاج مواد مخصصة لتلبية احتياجات القراء، والعمل على زوايا محددة في تناول الأحداث يرغب المتابعون في الاستزادة منها لكنهم لم يجدوها في مواقع أخرى، وتحديث موضوعات بعينها بشكل مستمر وإعادة ترويجها عدة مرات إذا وجدنا أنها تتصدر قائمة الموضوعات الأكثر قراءة لعدة أيام، وكتابة العناوين بأشكال معينة، وترتيب الموضوعات في الصفحة الرئيسية، وغير ذلك. ولهذا السبب ظهرت تخصصات دقيقة يجب أن يكون الصحفي ملما بها، مثل “تصميم تجربة المستخدم” و”صناعة المحتوى لتحسين محركات البحث”، وغيرها من المجالات التي أصبحت إجادتها أساسية للصحفيين إذا أرادوا جذب الجمهور للمحتوى الذي يقدمونه.
التميز
لا حاجة إلى الاستفاضة في شرح كيف وجد الجمهور نفسه أمام طوفان هائل من وسائل الإعلام ومواقع التواصل التي تحاصره بالأخبار في كل دقيقة من يومه. ولذلك أصبح على الصحفي بذل مجهود مضاعف ليتميز عن المنافسين وتقديم معلومات إضافية لأن نشر الأخبار لم يعد هو طريق التميز الذي يجذب القراء، فنحن نعيش في عصر أصبحت فيه الأخبار “على قارعة الطريق”.
على سبيل المثال، تناقلت المواقع ووكالات الأنباء خبر وفاة المفكر الكبير محمد عمارة في فبراير/شباط 2020. واتبعت المواقع الإخبارية طريقتين للتعامل مع الخبر. الأولى نشر مادة تتناول الوفاة وسببها ومكانها وموعد الجنازة وغير ذلك، والثانية نشر تقرير يتضمن تعريفا بالمفكر الراحل وأبرز أعماله وإسهاماته الفكرية والثقافية. ورغم أن تلك خدمة جيدة لا غنى عن تقديمها للقراء، إلا أنها لا تخلق التميز المطلوب لأن جميع المواقع الإخبارية تقريبا ستنشر نفس المادتين وسيكون هناك تشابه كبير في محتواهما. ولذلك فكرنا في موقع الجزيرة مباشر في زاوية أخرى لتناول الوفاة، وفي نفس الوقت نغري الجمهور بقراءته عبرنا حصرا. ولذلك أشرنا في العنوان إلى وجود وصية للمفكر الراحل نشرها نجله على حسابه في فيسبوك بعد الوفاة مباشرة، دون الإشارة إلى محتواها، وهو ما أدى إلى نجاح المادة في جذب القراء.
نفس الأمر تكرر مع وفاة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله في يناير/كانون الثاني 2020. فقد انشغلت المواقع الإخبارية بأخبار تفاصيل الوفاة والجنازة والمشاركين فيها، ونشر تقارير تتناول شخصية السلطان الراحل والسلطان الجديد وتاريخهما.
لكن كانت نقطة التميز هنا في طريقة نقل السلطة داخل السلطنة، التي كانت فريدة من نوعها. إذ انعقد مجلس الدفاع العماني مع مجلس العائلة المالكة لفتح وصية السلطان قابوس، بعدما قرر مجلس العائلة اعتماد من اختاره السلطان في وصيته ليتولى الحكم خلفا له. ونقلت شاشة الجزيرة مباشر جلسة فتح الوصية وقراءتها. ورغم أهمية الفيديو إلا أنه لم يحصل على الأهمية اللائقة به لوجود أحداث متلاحقة في ذلك اليوم، إلا أن الأمر مختلف على المنصات الرقمية. ولذلك نشرنا تقريرا تضمن تفريغ نص الوصية التي قرأت أثناء الجلسة مع تضمين مقطع الفيديو داخل التقرير، وكتابة عنوان غامض يتحدث عن “فتح وصية السلطان قابوس وقراءتها”، دون أن يوضح تفاصيل أخرى عن مضمونها. وبالفعل حظي التقرير بإقبال هائل من القراء طوال أيام.
العمل جماعي، والنجاح كذلك
أشار أساتذتنا في كلية الإعلام مرارا إلى أن الصحف المصرية، خاصة الحكومية منها، لم تكن تكتب اسم الصحفي على الأخبار التي يكتبها إلا بعد سنوات طويلة من العمل والاجتهاد، وكأن الأمر منّة من الصحيفة أو هدية تملك منحها أو منعها وقتما تشاء! إلا أن ظهور الصحف الخاصة والحزبية والإعلام بأشكاله المختلفة قضى بنسبة كبيرة على هذه العادة الظالمة.
أما في حالة الصحافة الرقمية فالأمر أكثر تعقيدا، فالعمل جماعي بالمعنى الحقيقي، والنجاح كذلك. ففي التغطيات المباشرة للأحداث الهامة، يشارك الجميع في كتابة وتحرير المواد وتحديثها، وقد يشترك فريق العمل بأكمله في تحديث المادة الرئيسية التي تتناول تطورات الأحداث لحظة بلحظة. وعندما يتولى أحدنا مسؤولية الإشراف التحريري على فريق العمل أثناء الدوام، يشعر بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه، وبأنه مسؤول عن كل حرف يكتب وينشر. ولذلك يسعد بكل نجاح ويحزن لأي تراجع يصيب الموقع. أيضا يشعر المشرف التحريري بسعادة غامرة عندما يكلف محررا بإنتاج مادة تنجح في جذب القراء بعد نشرها، وكأنه من كتبها، لأنها كانت إنتاجا مشتركا. ويحرص كل مشرف في هذا الموقف على الإشارة لمجهود الزميل كاتب المادة والإشادة بما قام به. ولذلك فإن العمل الجماعي يورث شعورا جماعيا بالنجاح دون استئثار أي فرد به.
هذه الثقافة مفتقدة بشدة في وطننا العربي، إذ يحاول كل مسؤول أن يخطف الأضواء ويستأثر بالنجاحات وينسب كل الأفكار الجيدة لنفسه وكأنها هبطت عليه من السماء، وفي المقابل يحمّل مرؤوسيه مسؤولية أي إخفاق. ولا يشير لأي مجهود بذل من قبلهم.
ويمكن لثقافة العمل الجماعي وإعطاء كل شخص رصيده من التقدير والإشارة لتفاصيل المجهود الذي بذله أن يكون لها تطبيقات واسعة في الوطن العربي والعالم. أبرز مثال لذلك فكرة ممتازة نفذتها إحدى شركات المقاولات بعد بنائها لأحد المباني العملاقة، إذ وضعت جدارية كبيرة في المدخل تحمل أسماء جميع المشاركين في البناء ودور كل منهم. هذا مثال واحد فقط من مئات الأمثلة التي يمكن خلالها إشعار العاملين في كل مؤسسة بالرضا والفخر عن أنفسهم. وبلا شك سينعكس هذا الإحساس إيجابا على أدائهم.
(معهد الجزيرة للإعلام)