محسن الإفرنجي
اكتسبت تغطية بطولة كأس العالم 2022 في قطر أهمية خاصة كونها تقام لأول مرة في بلد عربي مسلم، الأمر الذي أثار حفيظة الغرب بصورة جلية بدت من خلال الحملة الدعائية الموجهة التي شنتها عدة دول أوروبية على قطر وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا واستراليا بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان، وشاركتهم أمريكا فيها.
الحملة الموجهة ضد قطر لم تتوقف حتى بعد انطلاق صافرة كأس العالم، بل بدأت تتخذ أشكالا جديدة مثل موقف المنتخب الألماني الذي بدأ مباراته الأولى ضد اليابان بصورة اللاعبين وهم يضعون أياديهم على أفواههم في إشارة إلى رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم لارتداء اللاعبين أي إشارة لها دلالات سياسية أو غير ذلك.
ولاقت العديد من الانتقادات الغربية ردودا من ناشطين وإعلاميين غربيين، من بينها موضوع منع الفيفا للمشروبات الكحولية في الملاعب ومحيطها، والتي ردت عليه عدد من الناشطات من بينهن الناشطة البريطانية إيلي مولسون التي ذكرت للتايمز البريطانية: “ساعد منع الكحول في ملاعب قطر على استمتاع النساء بالحدث دون تحرش ومضايقات”، وهو الرأي الذي شاركتها فيه الناشطة التي تدير حملة HerGameToo لجعل بيئة الملاعب آمنة للنساء حيث قالت: “رغم الانتقادات الدولية ضد قطر فإن ملاعبها أكثر أمانًا وملاءمة للنساء من بريطانيا”.
ووفقا لاستطلاع رأي أجرته شركة “ستاتيستا” العالمية المتخصصة في أبحاث السوق والمستهلكين؛ فإن معظم الجماهير الإنجليزية ترفض مقاطعة المونديال في قطر، كما أظهر الاستطلاع الذي شمل 1031 شخصا بالغا في إنجلترا أن 10% من الإنجليز المشاركين فيه قالوا إنه يجب على عشاق كرة القدم في البلاد مقاطعة مونديال قطر، فيما عارض ذلك 34%، بينما بقي 33% منهم على الحياد.
الحملة الدعائية الغربية لا تستهدف قطر فقط، وإن كانت هي المقصود المباشر حاليا لنجاحها الكبير في تنظيم مونديال 2022؛ لكنها حملة بدأت منذ وقت طويل لصناعة صورة نمطية سلبية عن كل ما هو عربي ومسلم، وانكشفت أبعادها من خلال تغطية انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه ضد المدنيين الفلسطينيين، وما أظهر بشكل سافر ازدواجية معاييرها هو موقفها من غزو روسيا لأوكرانيا وما صاحبه من ممارسات إعلامية غير مسبوقة ضربت صميم القيم المهنية التي طالما تبجّحوا بها.
في هذا المقال أرصد بعض التغطيات الصحفية العالمية الخاصة بافتتاح مونديال قطر 2022 وما صاحبه من احتفالات وفعاليات متنوعة بمشاركات عربية وعالمية.
مقارنات غير واقعية..!
ركز حفل الافتتاح للمونديال على قيم التكامل بين الشعوب واحترام الثقافات المختلفة، إلى جانب عروض ثقافة محلية قطرية. وبحسب “الفيفا”، فقد شاهد مراسم حفل الافتتاح نحو مليار نسمة حول العالم، ليكون الأكبر من حيث المشاهدات في تاريخ البطولة.
حفل الافتتاح وصفته العديد من وسائل الإعلام العربية الغربية بـ”المبهر” وهو ما لم يرق لوسائل إعلام غربية عديدة أيضا التي ترواحت مواقفها ما بين التجاهل أو التقليل من شأنه أو مهاجمته لأسباب غير منطقية.
نبدأ بالمؤسسة الإعلامية العريقة هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية بي بي سي صاحبة الهجوم الأشرس والرافض لاستضافة قطر -كبلد عربي- لكأس العالم، بذرائع عدة أهمها انتهاك حقوق العمال وحقوق المثليين.
بي بي سي أحجمت عن بث حفل الافتتاح الذي لم يتجاوز نصف ساعة؛ بينما كانت قد بثت حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين قبل تسعة أشهر، وهو البلد المتهم بارتكاب جرائم حرب موثقة وإبادة جماعية لمسلمي الإيغور.
تجاهل بي بي سي لتغطية حفل افتتاح كأس العالم هذه المرة على غير عادتها في المرات السابقة أثار زوبعة ضدها ارتكزت على “عدم مصداقيتها وتوازنها في التعامل مع الأحداث العالمية المهمة”.
وقال الإعلامي البريطاني جيمس ميلفيلي منتقدا تناقض القناة الرسمية ببريطانيا: “أفهم لماذا افتتحت بي بي سي بث كأس العالم بإدانة سجل قطر في مجال حقوق الإنسان، لكني لا أتذكر أنهم فعلوا ذلك عندما استضافت الصين الألعاب الأولمبية”.
في حين اعتبر الإعلامي الشهير بيرس مورغان، أن “ما قامت به بي بي سي، فيه عدم احترام شديد لقطر، وبدلاً من ذلك وضعت المزيد من إشارات الفضيلة حول مدى فظاعتها”. وأضاف: “إذا شعروا بالفزع، عليهم إعادة جيشهم الضخم من الموظفين إلى الوطن، وتجنيبنا هذا النفاق السخيف”.
فيما ذكرت صحيفة “ديلي ميل” أن ما قامت به بي بي سي، هو “ادعاء للفضيلة، ويظهر نفاقا كبيرا”.
الصور النمطية
استهلّت بي بي سي حديثها عن افتتاح كأس العالم في قطر بالقول: “بعد 12 سنة من التساؤلات، والانتقادات، والتكهنات، أخيرا انطلقت بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر ، وهذه هي الدورة الأولى من المسابقة التي تُقام في دولة مسلمة في الشرق الأوسط، مما يجعلها محاطة بالكثير من الجدل في عدد من القضايا منذ الإعلان عن استضافة الدوحة للبطولة”.
ومن بين العناوين التي ركزت عليها بي بي سي قبيل الافتتاح “قطر تتهيأ لانطلاق المونديال وسط تحديات كبيرة” و”مونديال قطر 2022 الأكثر إثارة للجدل”.
ولم يسلم الجمهور من انتقاد بي بي سي، مشككة في أعدادهم وانتماءاتهم الجغرافية معنونة أحد تقاريرها بـ”حقيقة مشجعي قطر “المزيّفين” في المونديال” مضيفة “مع وجود آلاف المقاعد فارغة خلال المباريات الافتتاحية لكأس العالم، بالإضافة إلى الادعاءات المتزايدة حول دفع مشجعين “وهميين” لملء شوارع الدوحة، أصبحت الجماهير في قطر تحت الأضواء مرة أخرى”. رغم أن أعداد الجمهور التي حضرت الافتتاح والمباريات هي مسؤولية الفيفا وتتولى إظهارها أمام الجمهور ووسائل الإعلام بكل شفافية.
وعلى نهج البي بي سي، ذكرت الأوبزرفر البريطانية: “جياني إنفانتينو والفيفا أفسدا استعدادات الفرق للبطولة بقطر”، واصفة خطاب رئيس الفيفا بأنه “منافق على نحو مضحك”.
أما الغارديان البريطانية فكتبت: “الغسيل الرياضي يلطخ صورة كرة القدم، و يبدو أن مسابقة كأس العالم، قد فعلت الكثير لتشويه صورة كرة القدم أكثر من تحسين صورة قطر”. وتضيف الصحيفة “الكثير من مشجعي كرة القدم وكذلك نشطاء حقوق الإنسان اشتكوا من أن “الأمر يبدو وكأنه ترنيمة قذرة للمال والسلطة أكثر من كونه احتفالًا بهيجاً باللعبة”.
ووفقا لجيم واترسون من صحيفة “الغارديان”، فإن المونديال القطري هو “غش سياسي وفساد أدى إلى جمع أفضل لاعبي كرة القدم في العالم بالدوحة خلال منتصف الشتاء الأوروبي”.
بينما أشادت صحيفة “ذصن” واسعة الانتشار بحفل الافتتاح، قائلة إن “البطولة انطلقت بعد حفل افتتاح رائع ومذهل على ستاد البيت قبيل مباراة الافتتاح بين قطر والإكوادور”. ونشرت الصحيفة مجموعة كبيرة من الصور لحفل الافتتاح ضمت الممثل العالمي مورجان فريمان والشاب القطري الملهم غانم المفتاح سفير النوايا الحسنة في قطر.
وقد تصدى رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جياني إنفانتينو للاتهامات بحقه وحق قطر ملقيا الكرة في ملعبهم حيث اتهم الغرب “بالنفاق بشأن سجل حقوق الإنسان في قطر”، مضيفاً: “لقد تعلمنا العديد من الدروس من الأوروبيين والعالم الغربي، أنا أوروبي، وبسبب ما كنا نفعله منذ 3000 عام حول العالم، يجب أن نعتذر لنحو 3000 سنة قادمة قبل إعطاء دروس أخلاقية”.
سردية إثارة الجدل.. مجددا!
العديد من عناوين الأخبار في المواقع الغربية كانت تكرر مصطلح “إثارة الجدل” حيث قرأناه في عشرات العناوين وردود أفعال الإعلاميين والرياضيين والمسؤولين الغربيين، واعتمدوا في توصيفهم السلبي المنحاز على معلومات مضللة تتعلق بأعداد الوفيات من العمال الذين توفوا خلال بناء منشآت وملاعب كأس العالم وغيرها.
فقد ذكرت مؤسسة دويتش فيليه الألمانية في عنوانها الرئيس لحفل افتتاح كأس العالم على أنها “النسخة الأكثر إثارة للجدل في تاريخ البطولة”، و هو المصطلح الأكثر تداولا لدى العديد من منتقدي إقامة المونديال في قطر.
وجاء في تقرير لها عن افتتاح مونديال قطر 2022: “نسخة مونديال 2022 تعد النسخة الأكثر جدلا حتى الآن، لدرجة أنه كانت وما تزال هناك مطالبات بمقاطعة البطولة. وتعرضت قطر لانتقادات ضخمة من قبل سياسيين ورياضيين وناشطين، خصوصا في الآونة الأخيرة، بسبب أوضاع حقوق الإنسان في الإمارة الخليجية، وكذلك موقف البلد الرسمي من مجتمع الميم، وأوضاع العمال الذين شاركوا في بناء منشآت كأس العالم” متجاهلين ذكر الردود القطرية على هذه الملفات والتساؤلات.
أما وكالة الأنباء الألمانية “د ب أ” فأكدت أن قطر نظمت حفل افتتاح مبهر للنسخة الثانية والعشرين من بطولة كأس العالم لكرة القدم، مشيرة إلى ما تضمنه الحفل من فقرات تمزج بين التقاليد القطرية والثقافة العالمية، فضلا عن الفقرة الفنية التي استعرضت أغاني النسخ السابقة لكأس العالم مع عرض تمائم تلك البطولات.
وأشادت الوكالة بحفل الافتتاح الذي بدأ بمجموعة من الاستعراضات الراقصة التي أشعلت حماس الجماهير، سبقتها فقرة غنائية من التراث، كما شهد الحفل عرضا خاصا لتميمة البطولة التي تطايرت في الهواء على أنغام الموسيقى، وبعدها ألقى النجم السينمائي الشهير مورغان فريمان كلمة برفقة الشاب القطري من ذوي الاحتياجات الخاصة غانم المفتاح سفير النوايا الحسنة.
بدورها ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن “الناس سيجتمعون على مختلف أجناسهم وجنسياتهم وعقائدهم وتوجهاتهم في قطر وحول الشاشات في جميع القارات للمشاركة في لحظات الإثارة ذاتها”.
أما قناة “فرانس 24” الفرنسية، فقد بثّت تقريرا حمل عنوان “مونديال 2022 .. أمير قطر يرحب بالجميع في حفل افتتاح مزج بين التقاليد القطرية والثقافة العالمية”.
وفي تقرير لها عنونته بـ”لماذا يشعر بعض العرب والمسلمين بالصدمة من تغطية مونديال قطر؟” تناولت شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية تصريحات رئيس الفيفا واصفة إياها بأنها “تعاطف ظاهري مع قطر بسبب وابل من الانتقادات في وسائل الإعلام الغربية لاستضافتها البطولة”.
وفي محاولة للتقليل من تلك التصريحات التي اتهم فيها الغرب بالنفاق، ذكرت الشبكة الأمريكية: “انتشرت تلك التصريحات عشية كأس العالم على نطاق واسع ، وأثارت الكثير من الغضب والسخرية؛ لكن بالنسبة للعديد من العرب والمسلمين ، كان لها صدى قوي”.
وأورد التقرير أن منتقدي التغطية الإعلامية الغربية لقطر على أن الدول الأخرى ذات السجلات المشكوك فيها في مجال حقوق الإنسان لم تخضع لمثل هذا التدقيق عند استضافة الأحداث الرياضية العالمية.
لكن شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية ذكرت في تقرير آخر لها، أن “حفل افتتاح مونديال قطر 2022 الذي أقيم في استاد البيت، خطف أنظار العالم” مشيرة إلى أنه تمحور حول التقارب بين كلّ الشعوب، والتغلب على الاختلافات من خلال الإنسانية والاحترام، وهو نفس ما نقلته وكالة “أسوشيتد برس” الإخبارية الأمريكية، التي كتبت أن “قطر بذلت جهدا كبيرا لجعل البطولة واحدة من أنجح البطولات، خاصة فيما يتعلق ببناء عدد من الملاعب المونديالية الكبيرة”.
موقع قناة الحرة الأمريكية قال: “مونديال قطر .. إبداع، حفل الافتتاح يغطي الانتقادات والهزيمة”، في إشارة إلى هزيمة المنتخب القطري المستضيف للبطولة.
اليوم، وقد شارف المونديال على الانتهاء بقيت بعض معالم الحملة الدعائية التحريضية على قطر قائمة رغم ضعفها وتراجعها بعد أن اعترف الكثيرون بنجاح المونديال بصورة غير مسبوقة لتتفوق سردية الانبهار على سردية القيم المهنية المنهارة المرتكزة على ازدواجية المعايير ونظرة الاستعلاء، وعلى صناعة صورة نمطية مشوهة وغير عادلة عن العرب والمسلمين رسختها العديد من وسائل الإعلام الغربية وكتابات مفكرين ومستشرقين.. فهل سيراجع بعض الإعلام الغربي المنحاز والمضلل حساباته ويعود إلى قيمه المهنية أم سيزيد من جنوحه نحو سرديات التضليل وصناعة الصورة النمطية الزائفة تجاه العرب والمسلمين؟
(معهد الجزيرة للإعلام)
المقال نُشر بتاريخ 19-12 قبل المباراة النهائية لكأس العالم