إسماعيل عزّام
يمثل إيلون ماسك قدوة كبيرة لمن يكرهون كل ما هو تقليدي، خصوصاً لنجاحاته في مجال السيارات الكهربائية والنقل الفضائي، لذلك ليس غريبا أن تظهر له الطريقة التي عمل بها تويتر على مدار السنوات الأخيرة، طريقة تقليدية ولا تجني الأرباح التي يرغب بها الملياردير الشهير، كما لا تعبر عن روح الجيل الجديد من المنصات الرقمية.
منصة تويتر هي قطعاً واحدة من شبكات التواصل الاجتماعي الناجحة في العالم، لكن أمورا كثيرة داخله لم تكن تسرّ ماسك، وأكبرها نموذجه الاقتصادي الذي يمنح مجانية كبيرة للمستخدمين بمن فيهم المشاهير، وثانياً القيود التي يضعها على حرية التعبير مقابل تسامح المنصة مع أسراب الذباب الإلكتروني واللجان الإلكترونية التي جعلت من الشبكة مساحة واسعة لنشر الأخبار الكاذبة والمضللة.
بالنسبة للصحفيين والمؤسسات الإعلامية، تبقى خطط ماسك غامضة: هل سيدفع الرجل بحرية التعبير إلى مداها على المنصة؟ هل سيتوقف تويتر عن محاصرة نوع من المحتوى لأسباب سياسية أكثر منها قانونية ومن ذلك الحظر المطبق على حسابات وسائل إعلام روسية وعلى حسابات كتاب ومؤسسات صحفية فلسطينية؟ وهل سيفرض قيوداً أكبر على الذباب الإلكتروني الذي يهاجم الصحفيين والمؤسسات الإعلامية بحملات منسقة غايتها إسكاتهم أو محاولة تضليل جمهورهم ببث أخبار عكسية كاذبة أو مبالغ فيها؟
من أول ما وعد به ماسك هو أن الشركة ستعين مجلسًا للإشراف على المحتوى يحتضن رؤى متعددة، وأن أيّ قرار يخصّ إمكانية إعادة عمل حساب تم حظره من إدارة الشركة لن يتم إلّا بعد تشكيل هذا المجلس، أول حساب ينتظر المتابعين أن يبت فيه ماسك وهذا المجلس، هو حساب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي حظرته إدارة تويتر السابقة بحجة التحريض على أحداث الكابيتول.
مستقبل أسود للصحفيين على المنصة؟
يحظى تويتر بأهمية بالغة لدى الصحفيين. الصحفيون الأمريكيون يستخدمونه بنسبة 69 في المئة مقابل 52 في المئة لفيسبوك وفق دراسة لمركز بيو للأبحاث (1). حقق شهرته بين الصحفيين لقدرته على نقل الأخبار العاجلة وسهولة البحث داخله ونضج محتواه، مقارنة مع بقية المنافسين، وتوفره على أدوات تتيح للصحفيين استخدامه في تغطية الأحداث مقارنة بفيسبوك.
لكن هناك من يرى أن أيام الصحفيين ستكون سوداء على تويتر مع إيلون ماسك. كتبت إيميلي بيل، مديرة مركز تاو للصحافة الرقمية (تابع لمدرسة كولومبيا للصحافة) أن ماسك يتبع الأساليب نفسها التي انتهجها ترامب في التقليل من مصداقية الصحافة وقلب الحقائق، مبرزة أن الصحفيين عليهم أن يكونوا الآن أكثر حذراً في العمل على المنصة بما أن معطياتهم ورسائلهم الخاصة توجد لدى شركة اشتراها ماسك، زاعمةً أن هذا الأخير سيستخدم المنصة للرد على أيّ تقرير لا يعجبه أو تقييده.
وتستدل إيميلي بيل على ذلك بتغريدات كان ماسك قد وجهها ضد صحيفتي “نيويورك تايمز” و”الغارديان”، ورغبته بإنشاء موقع حيث يمكن للناس تقييم الصحفيين، وكذلك بإعادة تغريده لرابط مقال من صحيفة متواضعة المصداقية، يغطي واقعة الاعتداء على زوج نانسي بيلوسي عبر نظرية المؤامرة، وبوضع تويتر لعلامة مشككة في مصداقية تغريدة صحفي نشر جزءاً من تقرير لنيويورك تايمز يتحدث عن أن ماسك أقال عددا من العاملين في تويتر على وجه السرعة حتى لا يؤدي لهم تعويضاتهم المستحقة (2).
تطلب منظمة مراسلون بلا حدود من ماسك أن يكون حذرا في إعادة تنظيمه للمنصة، وتنبهه إلى أن الصحافة يجب ألا تكون “ضحية جانبية” لقراراته الإدارية (3). كما أدانت كل من الفدراليتين الأوروبية والدولية للصحفيين استحواذه على تويتر، وحذرتا في بيان مشترك من تهديد الملياردير للتعددية ولحرية الصحافة ولإمكانية خلقه منصة للتضليل (4).
هل يستطيع ماسك فعلا تهديد الصحافة؟
أرسل ماسك رسالة مشفرة للصحفيين هذه الأيام، إذ أشاد كثيرا بأفضال تويتر على “صحافة المواطن” وقال إنها تتيح للناس نشر الأخبار دون “تحيز مؤسساتي”. لم يتوقف ماسك فقط عند الحديث عن مساهمة هذا النوع من الصحافة الهاوية في تعميم الأخبار لكنه خصّها بميزة يرى أن المؤسسات الصحفية تفتقدها.
لا يظهر هذا الاحتفاء مفاجئاً، والجديد فيه أنه ظهر في التغريدات الأولى التي نشرها ماسك مباشرة بعد امتلاكه تويتر. تُفضل الشبكات الاجتماعية عموماً المواطنين الصحفيين لأسباب كثيرة منها أن جلّ نشاطهم يبقى داخل هذه المنصات واقتناعهم أن لا وجود لهم تقريباً دون الاستعانة بمنصات التواصل، وأنهم لا يعلّمونها في كل مرة أخلاقيات النشر، فضلاً عن غياب لوبيات تدافع عنهم، بينما يبقى الصحفيون بالنسبة لها مصدر إزعاج، خصوصاً عندما يكشفون ما تريد إخفاءه، وأرشيف الصحافة الأمريكية متخم بتقارير عن فضائح استغلال غير قانوني لبيانات المستخدمين على الشبكات الاجتماعية.
لا شك أن ماسك، كغيره من المليارديرات الذين تعقبت الصحافة أخبار شركاتهم وتسببت لهم أحياناً في متاعب مست سمعتهم، لن يكون قديساً في نظرته للصحافة وسيفضل أن تنساه السلطة الرابعة إلّا من يقوم بوظائف العلاقات العامة أو من يغطي معارك تغريداته على تويتر، لكن في الجهة المقابلة، يبقى ماسك مجبراً على عدم استغلال تويتر لتصفية حساباته مع الصحفيين.
صحيح أن ماسك أضحى مالك تويتر، لكن هذه الشبكة الاجتماعية تبقى إرثاً أمريكياً في أحد أكثر بلدان العالم ليبرالية في مجال حرية التعبير، وكما عجز ترامب عن ترويض الصحافة الأمريكية، يعي ماسك أنه لن يغيّر الواقع الإعلامي لصالحه بفرض سلطوي لتصوّره الخاص، خصوصاً أن حوالي 69 في المئة من مستخدمي تويتر في الولايات المتحدة يتابعون داخله الأخبار حسب دراسة أخرى لمركز بيو للأبحاث (5). وكمليادير برز اسمه في الصفقات التجارية الناجحة، لن يجرأ ماسك على دفع الصحفيين إلى الهجرة من تويتر إلى منصات أخرى، لأن الأمر تجاري بالنسبة له.
حرية تعبير لا محدودة؟
بعيداً عن المعارك مع الصحفيين، هناك شيء إيجابي ولو ظاهريا. يوضح ماسك أنه مع “حرية التعبير.. لكن فيما يتوافق مع القانون”، متحدثا في تغريدة أنه “ضد الرقابة التي تتجاوز القانون” (6)، وهو توضيح أراد منه اتخاذ مسافة من المنظمات المتطرفة التي تحذر منها السلطات الأمريكية، ومنها منظمة كيون أنون اليمينية.
موقف ماسك يساند ما تريده وسائل الإعلام عبر العالم، خصوصاً منها التي تشجع على الحرية المسؤولة في التعبير والنشر. لكن استدلال ماسك بالقانون ليس كلاماً يمرّ مرور الكرام. تطالبه منظمة Article 19 باحترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومن ذلك حرية الرأي والتعبير، وضرورة تأكيد التزامه بمبادئ الشفافية والمحاسبة، والحفاظ على سرية هوية المستخدمين الذين لا يرغبون بالكشف عنها، وبالاستمرار في دعم شركة “بلوسكاي” التي تسعى لإطلاق منصة اجتماعية لامركزية تتيح للمستخدمين التحكم في بياناتهم وتمنع سيطرة جهة مركزية عليها.
كما أن حرية التعبير لا تعني تحويل منصة إلى مزرعة للأخبار الكاذبة التي تتعامل معها القوانين عبر العالم بمرونة كبيرة. هناك رسالة سلبية وجهها ماسك كذلك، هي إقالته لفيجايا غادي، التي كانت رئيسة القسم المسؤول عن مكافحة الأخبار الكاذبة. وتنبه منظمة مراسلون بلا حدود في مقال إخباري لها إلى أن قرار مماثلا ستكون له انعكاسات كارثية، بما أن التضليل يستفيد كثيرا من خوارزميات تويتر. تعترف المنظمة أن سياسات تويتر لمواجهة الأخبار الكاذبة كانت عموماً ضعيفة، لكن ترك المجال خاليا لن يصلح العطب.
ما قد يخفف من مخاوف غرق تويتر أكثر في مستنقع التضليل، هو رفض ماسك سابقاً استكمال الصفقة بسبب اعتراضه على الرقم الكبير للحسابات الوهمية. وعد ماسك بتقليل نسبة هذه الحسابات التي تصل حسب أرقام شركة مختصة تعاملت معه إلى 11 بالمئة من مجموع الحسابات (7)، لكن أكبر تحد سيواجهه هو مع المحتوى المصنف دعائي، خصوصاً الروسي والصيني، وهل سيكون ماسك ملزماً بتتبع السياسات الغربية التي تحذر من الدعاية الروسية خصوصاً في زمن حرب أوكرانيا أم سيفتح المنصة بشكل حر لينشر فيها الجميع أياً كانت توجهاتهم ونياتهم وأدواتهم؟
باختصار.. هل سيحلق الطائر كما يريد ماسك أم كما تفرض السياسة الغربية؟
(معهد الجزيرة للإعلام)