مصعب الشوابكة
كان الصحفي الاستقصائي سيمور هيرش، مفجر فضيحة عار أمريكا في فيتنام “مذبحة ماي لاي” التي كشفت عن ارتكاب أفراد من الجيش الأمريكي جرائم ضد المدنيين الفيتناميين، يتساءل لماذا لم تَنشر الصحافة الأمريكية مثل تلك القصص والتقارير في أوقات حدوثها؟ ويقول: “لو تم ذلك لأصبح بالإمكان إنقاذ حياة آلاف الفيتناميين”.
السؤال ذاته إضافة إلى أسئلة أخرى في بلادنا العربية؛ لماذا تُنشر العديد من المواد الصحفية عن رجال السياسة والاقتصاد والأمن عندما يغادرون مناصبهم، أو تنهار مؤسساتهم؟ ولماذا تنشر القصص والتقارير “الاستقصائية” عن دولة ما من وسيلة إعلامية خارج حدودها، في المقابل تتحاشى وسيلة الإعلام “الشجاعة خارجيًا” ممارسة ذات الدور في مسقط رأسها؟ ولماذا يبقى الرؤساء والزعماء والقادة محط التشريف والتبجيل في وسائل الإعلام؟ ولماذا الجيش والمخابرات وأجهزة الأمن خطوط حمراء لا تُمسّ في الصحافة العربية، مع أن ممارساتها على تماس مباشر مع الناس؟
أينما يولِّي الصحفي العربي وجهه فثمة قضية مهمة للناس تستحق الكشف والتقصي، وفضح المتسببين فيها والمسؤولين عنها ومحاسبتهم بهدف تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا والناجين، وتكريس سيادة القانون والشفافية والحكم الرشيد. أفكار التحقيقات الاستقصائية على قارعة الطريق في البلاد العربية، لكنها تبقى في الأغلب بعيدة عن الإنتاج والنشر والنثر في الفضاء العام، رغم كثرة الصحفيين والمؤسسات الإعلامية إلا إنّ هناك القليل من الصحافة المعيارية الجادة، وشُحّا مزمنا في التحقيقات الاستقصائية ذات الكشف الجديد والمتفرد، والبحث المعمق والتوثيق الدقيق، والأهمية والقيمة المضافة، ففي دراسة أكاديمية يعتقد 63.5% من الصحفيين العراقيين المستطلعة آراؤهم أن الصحافة الاستقصائية ضعيفة في بيئتهم، فيما يرى 18% أنها غير موجودة مطلقا (2) وهذه النسب متقاربة في دراسات عربية أخرى.
عند الحديث عن التحقيقات الاستقصائية في المنطقة العربية، لا نقصد تحقيقات استقصائية غيرت سياسات دولها كليا، أو أطاحت بالزعماء مثل ووترغيت، إنما المقصود تحقيقات تكشف انتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة، وسوء الإدارة، وتجاوزات القانون، والفساد المالي والإداري المتوسط والصغير، والقضايا المحلية التي تمس المواطن بشكل يومي، كضعف الخدمات العامة والبنى التحتية في الصحة والتعليم والنقل، والكهرباء وحماية المستهلك… حيث الفئة الأولى على شاكلة ووترغيت أقرب إلى العنقاء في المرحلة الراهنة، لأسباب ذاتية وموضوعية.
سنناقش مشاكل الصحافة الاستقصائية عربيًا في أربع مستويات، أولًا: البيئة السياسية والقانونية، ثانيًا: بنية المؤسسات الصحفية وثقافتها المؤسساتية ومكانتها الاقتصادية، ثالثًا: الصحفي الاستقصائي العربي المكانة والإمكانية، رابعًا: الصحافة الاستقصائية والمجتمع المدني والناس. في هذه المقالة نناقش المناخ السياسي والبيئة القانونية المؤثرة على الصحافة الاستقصائية العربية.
لا صحافة استقصائية في ظل حكم مستبد
إن الوعاء الحيوي لتطور الصحافة الحرة واستمرارها وتأدية رسالتها الحقيقية، كسلطة رابعة هو المناخ السياسي الحر، والصحافة الاستقصائية على وجه الخصوص تحتاج هذا الوعاء، وإلا تموت في الرحم قبل المخاض، والمناخ السياسي الحر يرتبط ارتباطًا عضويًا بطبيعة النظام السياسي، وفي بلاد العرب تقبع 17 دولة عربية من أصل 23 في مستنقع الدول الاستبدادية على مؤشر الديمقراطية لعام 2022، في حين لم تدرج أربعة منها على المؤشر، فيما صُنِّفت دولتان فقط في خانة الديمقراطية الهشة.
الاستبداد السياسي والحرية لا يلتقيان، والصحافة الحرة والمستقلة، والاستقصائية منها أبرز شهداء الأنظمة الديكتاتورية المستبدة. عام 2021 كان العام السادس عشر الأسوأ على التوالي في انخفاض الحرية العالمية، وفقا لتقرير فريدوم هاوس، وجميع الدول العربية غير حرة، وتقبع في أدنى سلم الحريات، عدا أربعة دولة عربية صنفت حرة جزئيا. أما في تصنيف مراسلون بلا حدود لحرية الصحافة العام المنصرم، فقد ذُيّلت القائمة بجميع الدول العربية، لأن الصحافة فيها غير حرة، عدا ثلاثة دول وصفت فيها الحرية الصحفية بالهشة، والمهددة بانتظام.
بعد وأد الربيع العربي في مهده، وفشل مسار التحول أو الانتقال الديمقراطي بفعل الثورة المضادة، والصراع السياسي على السلطة والثروة، والحروب الأهلية والاحتراب الداخلي، والعوامل الخارجية التي تفاعلت مع الظروف الداخلية، عادت الأنظمة عبر بوابة الدولة العميقة إلى عادتها القديمة في تجريف الحياة العامة. وكانت الصحافة والإعلام مطلوبي الرأس في أعلى القائمة، للعودة بها إلى بيت الطاعة ترغيبًا وترهيبًا، ورغم اختلاف حدة الإجراءات بين بلد عربي وآخر إلا إن ثمة روابط مشتركة ساهمت في إسكات الصحفيين، وعسرت نشر تحقيقات استقصائية تكشف المستور، وتظهر الخلل والانتهاك.
تفاوتت الإجراءات بدرجة القمع وحدوده بين بلد وآخر، في استخدام القضاء وتسيسه في قضايا الصحافة والحريات، وتوقيف الصحفيين احتياطيًا أو إداريًا دون محاكمات أو سجنهم في المعتقلات والسجون بأحكام عالية بين المؤبد والأشغال الشاقة، والتعذيب بين منهجي وغيره، والتجسس الرقمي بين بيغاسوس وتقليدي، واختراق الخصوصية والتهديد والابتزاز، والضغط الاجتماعي والاقتصادي، وإغلاق وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بحجة الأمن القومي أو المصلحة الوطنية، وحجب المواقع الإلكترونية بالجملة والمُفرق، وشراء المؤسسات الإعلامية، أو تمويلها، أو إنشاء أخرى جديدة بألوان زاهية، ومضامين باهتة.. وأصبح الخوف سيد الموقف، وعنوان المرحلة، والحياد السلبي هو خَيار الصحفيين، أو الانضمام إلى جوقة “كُتّاب التدخل السريع” الذين يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًا، ويعزفون على سيمفونية الرئيس والقائد الرمز والعسكر وجهاز الأمن ورجال المال والأعمال.
إن الصحافة الاستقصائية لا تنشأ إلا في ظل حكم ديمقراطي رشيد، يوفر الحماية للصحافة والصحفيين (3) وإن حرية الصحافة مبدأ أساسي للديمقراطية، وهي العنصر الأكثر أهمية فيها، وإن النقاش الحر في البرلمان والشارع أو في الصحافة، هو بمثابة دم الديمقراطية (4)، ويرى الفيلسوف الفرنسي أوكتاف ميربو أن حرية الصحافة يجب ألا تُمسّ ولا يصح الحد منها؛ لأنه لا يمكن التمتع بالحريات الأخرى دونها، إن مستقبل الصحافة الاستقصائية في المنطقة العربية مرهون بنجاح نظام ديمقراطي حقيقي، يُشيع مناخ الحريات والحقوق.
إن الفساد هو الابن المدلل للاستبداد، والفساد عدو شرس للحريات الصحفية والصحافة الاستقصائية، وقد تسبب الفساد بإزهاق أرواح العديد من الصحفيين الاستقصائيين حول العالم، فالعديد من الأنظمة السياسية الفاسدة ترتبط بعصابات الجريمة المنظمة، وتتعاون معها في كسر القوانين الدولية وتساعدها في التهرب من مسؤولياتها عن الجرائم وبحسب منظمة الشفافية الدولية فإن الفساد في الدول العربية ممنهج، ويضرب جذورا عميقة في المؤسسات والحياة اليومية، وبلغ معدله الإجمالي في المنطقة العام الفائت 39 درجة من أصل 100 للعام الرابع على التوالي، ولقد سمح سوء السلوك السياسي الممنهج، وطغيان المصالح الخاصة على المصلحة العامة للفساد بتدمير منطقة مدمرة أصلا بسبب مختلف الصراعات، واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان.
التشريعات أداة المستبد في وجه صحافة الاستقصاء
تنص أغلب دساتير الدول العربية على احترام وصون حرية الرأي والتعبير والصحافة، لكن هذه المواد الدستورية لا تحترمها الدولة ومؤسساتها، والسلطويات العربية سابقة على الدستور نفسه وأسمى منه، وهي وليدة الشرعية التاريخية أو الدينية، أو الثورية أو الحزبية، كما يراها الخبير الدستوري حسن طارق، وهي تريد الدستور كما القانون خادمًا طيعًا لأهدافها السياسية، لذا فإنها تلتف على الدستور وتتحايل عليه بإصدار القوانين التي تفرغه من مضمونه وجوهره، فمثلا شكلت قوانين الجرائم الإلكترونية في المنطقة العربية تشوهات بنيوية، وقيودًا قانونية مخالفة لبنود الدساتير والمعاهدات الدولية، ومنعت نشر معلومات تمس المصلحة العامة.
إن ترسانة التشريعات الناظمة للعملية الصحفية، تكرس مصلحة السلطة، وتضعها فوق مصلحة المجتمع، وهي أداة سياسية وليست تنظيمية لدول الاستبداد العربي، غايتها ضبط إيقاع الصحافة، وعدم شق عصا الطاعة، أو الخروج عن وصاية السلطة، وغدت هذه التشريعات عقبة بارزة أمام تطور صحافة استقصائية عربية جادة، وفي الوقت الذي “تُظهر فيه الدراسات الغربية ضعف العامل القانوني على مسار الصحافة الاستقصائية تحت ضغط متغيرات سياسية واقتصادية ومجتمعية بعد عام 2001، إلا إن العامل القانوني في المنطقة العربية يزداد قوة وخشونة وضغطًا على الصحافة الاستقصائية بعد عام 2013، وعلو كعب الثورة المضادة، وسن وتعديل التشريعات واستخدامها. إذ أصبح الكثير من الصحفيين الاستقصائيين يقضي أوقاتًا في أروقة المحاكم، أو جلسات التحقيق، أو في المعتقلات والسجون، ومراكز التوقيف، بتهم أغلبها كيدية أو ملفقة، وفضفاضة من قبيل التعرض للنظام العام، وإهانة الشعور القومي، وتعكير السلام العام، ونشر ما يتعارض مع مبادئ الحرية والمسؤولية الوطنية، ونشر ما يتعارض مع قيم الأمة العربية والإسلامية، وتعكير صفو العلاقات مع دولة أجنبية، وذم هيئة رسمية، وإطالة اللسان على مقامات عليا، وتعطيل سير القضاء… إلخ.
إن هذه التشريعات على غرار قوانين العقوبات، والمطبوعات والنشر، والجرائم الإلكترونية، ومنع الإرهاب، والاتصالات، وحماية وثائق وأسرار الدولة، وغيرها، تتشابه في المضمون وإن اختلفت في التسمية بين بلد عربي وآخر، فهي تجرم المؤسسات الإعلامية والصحفيين عبر تُهم قانونية فضفاضة، يحكم بها القضاء المسيّس بفرض العقوبات السالبة للحرية، والغرامات المالية والتعويضات الباهظة، رغم أن الأصل أن تساعد أغلب هذه القوانين في تنظيم المهنة، وترسيخها وتوفير الحماية للصحفيين ومصادرهم والمبلغين عن الفساد، والمسربين عنه، وفتح الباب الواسع أمام تدفق المعلومات طوعًا.
وفي هذا المقام تعتبر المجالس البرلمانية التي شرعت تلك القوانين السالبة للحريات الصحفية، ملحقًا “ديكوريًا” في هيكل السلطة، فقد ساهمت هندسة القوانين الانتخابية والمحاصصة والجهوية وشراء الأصوات، والتزوير الصريح لنتائج الانتخابات في إنتاج مجالس نيابية لا تعبر عن الشعوب وآمالها وأحلامها. لذا نجد أن الثقة بالمؤسسات البرلمانية العربية تتراوح بين 9% في ليبيا و32% في اليمن بحسب الباروميتر العربي في دورته الخامسة عام 2019 (9) وعليه فإن مصلحة البرلمانات العربية تتقاطع مع مصلحة حكوماتها في الحؤول دون وجود صحافة استقصائية جادة تراقب أعمالها، وتكشف تضارب مصالحها، ومحاباتها للحكومات، وتسترها على أخطاء الحكم، فإن الصحافة الاستقصائية الجادة والقوية تشكل كابوسًا يحول دون استمرارها، لذا تشرعن تلك المجالس رغبتها ورغبة الحكم في خنق الصحافة والحريات.
لا صحافة استقصائية دون تدفق سلس للمعلومات العامة
إن المفهوم الأساسي خلف حق الحصول على المعلومات، وهو أن الجهات الرسمية لا تحتفظ بالمعلومات لنفسها فقط، بل إنها تحتفظ بها نيابة عن الشعب ككل، الذي فوضها بهذا العمل (في الدول الديمقراطية على الأقل (10) وبالتالي فإن للجميع حق الحصول على المعلومات التي تحتفظ بها السلطات والهيئات العامة، ويشكل الحق في الحصول على المعلومات إكسير الصحافة الاستقصائية، وسبيل تطويرها، لما يساعدها في تحقيق أهدافها في مساءلة الحكومات وأجهزة الدولة، وتقييم عملها، ومحاربة الفساد، وكشف انتهاكات حقوق الإنسان، والمحافظة على كرامته الإنسانية، ومساعدته في اتخاذ القرارات الشخصية.
رغم وجود نصوص دستورية في أربع دول عربية (المغرب وتونس ومصر والجزائر) تنصّ على ضمان تدفق المعلومات، إضافة إلى ثماني دول لديها قوانين ناظمة للحصول على المعلومات وهي الأردن، واليمن وتونس ولبنان والسودان والمغرب، وفي عام 2020 أصدرت السعودية اللائحة المؤقتة لحرية المعلومات، كما أصدر الكويت في العام ذاته قانون الحق في المعلومات. ورغم إيجابية وجود القوانين، إلا إن أغلبها ضعيفة وهشة، ولا تمكن من تدفق المعلومات بسلاسة، وبعضها يشرعن حجب المعلومات لا كشفها، وتتراوح جودة القوانين العربية بحسب التصنيف العالمي لحق الحصول على المعلومات بين (54 من 150) في الكويت وهو القانون الأضعف و(120 من 150) في تونس وهو القانون الأفضل عربيًا، يليه القانون اليمني (103 من 105) وباقي القوانين العربية ضعيفة وهشة، وحصلت على أقل من 70.
تشكل جودة قوانين الولوج إلى المعلومات عاملًا حاسمًا في مسار تطور الصحافة الاستقصائية، لكن وجود ستة قوانين هشة وضعيفة من أصل ثمانية، عقبة أمام كشف المعلومات للصحفيين الاستقصائيين والعامة، ولا ننسى أن الواقع يلعب دورًا في تدفق المعلومات وليس جودة القانون فقط؛ ففي اليمن قانون جيد، لكن هناك صراع عسكري وسياسي، وانقسام عطل عمل القانون، وفي البلدان الأخرى الأكثر استقرارًا، كان التطبيق سيئًا؛ إذ إن أجهزة الدولة تربت وترعرعت على ثقافة السرية وأن المعلومات ملك لها وليس للمجتمع، فهي تسيطر عليها ولا تسمح بتدفقها إلا بما يتطابق مع مصلحتها، عبر تمريرها لصالح صحف داعمة لتوجهات الحكومة وسياساتها، فيما تحجبها عن المؤسسات الأخرى التي تتسم بالحياد والتوازن والاستقلالية. وفي مناخ كهذا تنعدم قيمة وأهمية القوانين المفروضة، وتتشابه الممارسة الميدانية للدول العربية التي فيها قوانين لحق المعلومات مع أغلب الدول العربية التي تفتقر لهذه القوانين.
لا صحافة استقصائية دون قضاء مستقل
القضاء المستقل ضمانة أساسية لحريات المواطنين وحقوقهم، دونه تغدو حريات الناس وحقوقهم هيكلًا بلا معنى، والقضاء المستقل يوقف أي سلطة في الدولة تعتدي على هذه الحريات والحقوق، والصحافة الاستقصائية تزدهر طالما كان القضاء عادلًا مستقلًا، وتتراجع بتراجعه.
فإذا طغت السلطة التنفيذية على حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر عبر قراراتها اليومية أو تنفيذها للقوانين، أو عن طريق التدابير الاستثنائية في الظروف الطارئة، كما حصل في جائحة كورونا عندما استغلتها الكثير من الدول العربية سياسيًا، وضيقت على الصحافة والصحفيين تحت يافطة الصحة العامة، وفي هذه الحالة لا يوجد إلا القضاء المستقل لكبح جماح التعسف وانحراف السلطة عن جادة الصواب، وبهذا تصان الحريات وتحمى حقوق الناس في صحافة حرة مستقلة.
القضاء المستقل يتصدّى لتوقيف الصحفيين الاستقصائيين دون محاكمات، ويجرم تفتيش منازلهم دون إذن قضائي، ويمنع استمرار توقيفهم دون مذكرة قضائية، ويحمي حقهم في حماية مصادر معلوماتهم، وينصفهم إذا سحبت تصاريح مزاولة المهنة، أو أغلقت مؤسساتهم، أو حجبت مواقعهم الإخبارية عن شبكة الإنترنت، أو تجسس العسس على هواتفهم الشخصية، أو امتنعت السلطة عن تزويدهم بالمعلومات التي يحتاجونها.
القضاء المستقل ضمانة لعدم طغيان السلطة التشريعية، في سن قوانين تزهق روح الدستور، أو تقيد الحريات والحقوق أو تنقص منها، أو تعطل حق الصحافة في الوصول إلى المعلومات، أو ترفع الحماية عن مصادر المعلومات، والمبلغين عن الفساد. القضاء المستقل يفرض رقابته على جميع القوانين والأنظمة بحيث لا يشوبها عيب عدم الدستورية.
وتتراوح الثقة بالقضاء وعدالته في البلدان العربية بين 25% في لبنان، و79% في مصر بحسب الباروميتر العربي لعام 2019 (13) لكن هذه الثقة المرتفعة في بعض البلدان لا تعكس بالضرورة الواقع، كون القضاء يعتبر من ملحقات السلطة في العديد من السلطويات العربية، ونقده والتقليل من شأنه يعرض الشخص للمساءلة والعقاب، فما زالت في معظم التشريعات العربية عقوبات مغلظة على ازدراء القضاء، والتطاول على هيبته، إذا لا يسمح بالتعليق على قرارات المحاكم إلا للمحامي المترافع في الدعوى.
إن عدم استقلال القضاء يعني الويل والثبور للصحافة الاستقصائية، والصحفيين المستقلين، وللفضاء العام، يعني مزيدًا من العقبات والمشاكل والغرامات والسجون… ويعني عدم وجود رقابة على قرارات ممارسات الحكومة وأجهزة الأمن والعسكر، وعدم وجود رقابة على القوانين والتشريعات الصادرة عن البرلمان، ما يعني أنه لا قيمة للحقوق والحريات، ولا مستقبل للصحافة الحرة والمستقلة بما فيها صحافة الاستقصاء.
يقول الفقيه القانوني الراحل، فاروق الكيلاني: “النصوص المكتوبة وحدها لا تكفي لحراسة حقوق المواطنين وحرياتهم، فهذه النصوص تتهاوى أمام قوى البطش والإرهاب التي يمكنها أن تطأها بأقدامها عندما تتعارض مع مصالحها”.
خلاصة القول إن هذا الواقع السياسي القاتم المحيط بالصحافة الاستقصائية العربية يجب أن يكون حافزًا للإنجاز رغم الصعاب والتحديات، وهذا المقال ليس دعوة إلى الانكفاء على الذات، والهروب من الميدان، والتسليم لسوط وصوت السلطة، بل هو إضاءة على المستوى السياسي المحيط بنا، وتأكيد على أن وظيفة الصحافة الاستقصائية هي “تصعيب مهمة من يحكمون عن طريق الحذر من كيفية ممارستهم للسلطة التي يقبضون عليها باسم الشعب” كما قال الصحفي البريطاني الراحل جريمي ريد.
(معهد الجزيرة للإعلام)