خوان كارّاسكيادو – اسم مستعار
رنَّت جوالات المراسلين التابعين للجهات الرسمية في اللحظة ذاتها تقريبا، كانت الرسالة هي نفسها للجميع: “الرئيس يود رؤيتكم”، كان ذلك مساء يوم جمعة، ولم يكن قد استجد أمر مهم في المدينة: وفاة بحادثة دهس على بعد أمتار قليلة من جسر للمشاة. كان حادث الموت عاديا حسب الوقائع: شاب بسيارة فارهة يصطدم بعمود كهرباء، نقل الشاب الصغير إلى المستشفى وهو يعاني من كسور عديدة أما المركبة فقد تحطمت بالكامل.
لكن الشاب لم يصدم عمود الكهرباء، صدم صحافيين اثنين، لم يتم التعرف على جثتيهما إلا بعد ثلاثة أيام، خمن الصحافيون أن الأمر يتعلق بذلك النوع من الجرائم التي تتورط فيها عصابات تجارة المخدرات.
نحو المجهول
في شاحنة صغيرة، وعلى بعد مبنيين من محطة الشرطة وأمتار قليلة من مبنى رئاسة الحكومة، أُرغم صحافيون على ركوبها، قام أعضاء العصابة بتغطية رؤوس الصحافيين بالأكياس، ومضوا في طريق متهالكة وموحلة، وممرات مليئة بالحفر وأعمال الصيانة. مضت ساعة على الرحلة وبدأت درجات الحرارة تنخفض بشدة، خمّن اثنان من الصحافيين: “كأننا نتجه إلى الساحل”، إلى أن وصلوا في النهاية إلى الموقع.
نزل الصحافيون وعلامات التعب جراء الاختناق بادية عليهم، نزعت الأكياس التي تغطي رؤوسهم، وأدخلوا إلى مكان أشبه بقاعة اجتماعات. رأوا الكثير من المفاجآت هناك؛ مزرعة كثيفة الأشجار، ما يقارب عشر شاحنات من الطراز الحديث، ملعبا لكرة القدم، والكثير من رؤوس الماشية، وبارًا طافحا بأجود أنواع الخمور المحلية والعالمية!!
أخيرا وصل قائد المنطقة التابع للعصابة، برفقته مجموعة من القتلة المأجورين يشكلون فرقة حراسة شخصية له، والتي تتكون عادة من أربعة إلى ثمانية أعضاء، وظيفتها الأساسية هي حماية قائدها الذي كان أول ما قاله لمعاونه: “من هؤلاء الأوغاد؟”، سرعان ما بدت على معاونه ملامح الاضطراب، ابتلع ريقه وأجاب بقلق: “ألم تطلب مني يا سيدي أن أجمعك بالصحافيين؟”،
بغضب شديد، وبعِرق نافر بدا جليًّا في جبينه أجابه القائد صارخا وهو يمسك ثيابه: “قلت لك أن تصِلني بالصحافة لا أن تجلبها إلى مزرعتي أيها الأبله، ولِمَ نزعت عن رؤوسهم الأكياس بحق الجحيم؟ لِمَ لَم تخبرني أنك اتصلت بهم وجمعتهم؟ كنت سأنزل أنا إلى المدينة، ها قد رأوا وجوهنا الآن”، ثم رماه بحركة خفيفة ومهينة، تشبه إلى حد كبير ما يفعله رجل في الحانة عندما يقول: “رغم أني دفعت ثمن هذين الكأسين إلا أنني لن أشربهما”، لأنه وقت البدء في العمل.
مصور تلفزيوني بلل ثيابه من الخوف، ومصور آخر كان قد قارب الوصول إلى سن التقاعد جثا على ركبتيه وشرع في الصلاة مغمضا عينيه، وآخر بدأ يبكي ويستجدي الرحمة، والثلاثة الباقون اختفت ملامح أوجههم. أما معاون القائد الذي اتصل بالصحافيين وطلب حضورهم فقد راح يسأل قائده الرحمة للصحفيين والعفو عن خطئه. عشر دقائق فحسب من النقاش وكأنها الأبد. لم يلق القائد بالاً لأعذار معاونه ومحاولاته تبرير الأمر وتخفيف العواقب، لكن اختفاء ستة صحفيين أو العثور على جثثهم في مكان ما كان سيشعل الساحة مع الحكومة والجيش، كانت تلك الأوقات هي الأكثر اضطرابا وحديثا عن العنف عام 2010.
“معك حق”، قال القائد ساخرا، “لكن حماقات كهذه لا تغتفر”. وأمام كل الصحافيين سحب مسدسا بعيار تسعة مليمترات، وبطلقتين أنهى حياة معاونه الذي لم يجد أمامه فرصة واحدة للاعتذار أو نيل الرحمة، الصحافيون الستة غطيت رؤوسهم بالأكياس من جديد وأعيدوا إلى المدينة، ولكن ليس قبل أن يتلقوا التعليمات: “هنا نحن من يقرر ما الذي يجوز نشره وما الذي لا ينشر، خلال أيام سيتواصل معكم وسيط، سيشرح لكم كيف نجعل الأمور هادئة دائما ومستقرة، ما الحاجة للخوض في كل تلك الحماقات؟”.
وسيط العصابات
بعد أسبوع تمت تسمية مراسل في إحدى الصحف محدودة الانتشار والتي لا تتمتع بمصداقية عالية ليكون وسيطا مع المنظمة الإجرامية، انقلب نمط معيشة ذاك المراسل رأسا على عقب. بعد عام واحد كان لديه ما يكفي ليفتتح حانة في ملكيته، ويمتلك سيارته الخاصة، ثم بعد شهرين فحسب يتم اختطافه، مرت الآن عشر سنوات ولا أحد يعرف مكانه، حتى أن اسمه غير مقيد في السجلات الرسمية للصحفيين المفقودين بالمنطقة!!
على هذه الأرض المليئة بالغابات والسواحل والصحاري والحواضر العديدة، ظل الوضع كذلك طيلة الخمسة عشر عاما الماضية، صحافيون يخضعون لإملاءات عصابات “لوس زيتاس”، وغيرها من عصابات “سينالاو” و”خواريز” و”خاليسكو” و”لوس كاباجيروس تيمبلاريوس” وعصابات أخرى. مراسلون يكفّون عن كتابة تقاريرهم بفعل تهديدات بالقتل وأخرى بالاعتداء على أسرهم، فضلا عن القليل ممن لم يكن صعبا إغراؤهم بالسلطة والمال اللذين توفرهما تجارة المخدرات.
في عام 2015 كانت هذه المقاطعة التي أكتب منها الآن إحدى أكثر المناطق فوضوية وعنفا ضد الصحافيين. لم تكن تمر ثلاثة أشهر دون أن أشيّع واحدا من الزملاء، أحدهم في العاصمة، وآخر في قرية صغيرة في “كوينكا”، وثالث في منطقة سياحية. كان الموت يجول ويضرب دون أدنى اعتبارات اجتماعية أو عرقية للصحافيين، زميلي الذي قتل في العاصمة كان قد فاجأه أربعة قتلة مأجورين داخل شقته في أحد أحياء الطبقة الوسطى، ضربوه حتى أنهكوا جسده ثم بدؤوا يتسلَّون بتجريح ظهره بمِقشرة البطاطا، قُتلت أربع نساء في ذاك الاعتداء الوحشي، وإلى اليوم ما زال أهالي المغدورين يحمّلون الحكومة المحلية ورئيس الشرطة المسؤولية الكاملة عن الجريمة.
ويا للسخرية، فإن رئيس الحكومة المحلية السابق يقبع الآن في السجن ولكن ليس بتهمة القتل، إنما بتهمة الكسب غير المشروع، أما رئيس الشرطة المذكور فهو يستجِمّ الآن في فندق بخمسة نجوم يمتلكه شخصيا على ساحل الكاريبي!!
زميلي الثاني من بلدة “كوينكا” كان صلبا للغاية، اختطفوه مرة وألقوه في مقاطعة مجاورة، عُثر عليه يومها وهو ممتلئ بالرعب والكدمات، قررت الحكومة الفيدرالية إخراجه من المنطقة ونفيه إلى الجانب الآخر من البلاد، كما منعته من العودة إلى ممارسة مهنة الصحافة، لكن المراسل لم يحتمل ستة أشهر في المنفى وعاد بعد أن غلبه اشتياقه لأرضه، وكذلك لأنه صار جَدًّا في الغربة ولم يتمكن من رؤية حفيده بعد، مرَّ ثلاثون يوما على عودته، ثم اغتيل بعد ذلك بأربع رصاصات. زميلي المراسل عرف قاتليه جيدا حين حيَّاهم لدى وصولهم قبل أن يسرقوا حياته على باب منزله، لقد أكدت زوجته أن الشرطة المحلية ساعدت المجرمين على الفرار قبل أن تصل القوات المدنية لملاحقتهم!!
زميلي الثالث دفن في منطقة سياحية، كان يعيش في بلدة تفصلها عشرون دقيقة عن الشواطئ الأكثر ارتيادا في كامل المنطقة. وإضافة إلى كونه مراسلا فقد دأب على تنظيم فرق للحراسة المجتمعية، بهدف حماية الأحياء السكنية وحفظ الأمن فيها، في عام 2015 أتت مجموعة من عصابات “خاليسكو / الجيل الجديد” لاختطافه، أخرجوه بالإكراه من منزله حيث حطموا الباب وروَّعوا أطفاله. حينها طلب منهم الهدوء، ولم يجِد بُدا من الانقياد إليهم والذهاب معهم، بعد ثمانية عشر يوما من اختطافه عاد زميلي المراسل جثة مُقطعة في كيس أسود، كان مختطفوه الستة من شرطة الدولة، واليوم واحد منهم فقط يقبع في السجن، من كل الذين دبروا وخططوا للجريمة لم تتم إدانة أحد سوى رئيس البلدية، والذي ما زال حتى الآن هاربا من وجه العدالة!!
شمال البلاد منطقة لا يحكمها أحد، أو لنقل إنها المنطقة التي تحكم فيها تجارة المخدرات بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كي تتمكن من الذهاب للعمل في تلك النواحي كمراسل محلي أو أجنبي، كان من الضروري أن تتجه رأسا إلى “صاحب القبّعة”، وهو كاتب ومؤرخ بعمر الخمسين ومراسل وطني بإحدى الصحف.
كان يعرف كل خبايا الجريمة المنظمة. يتعين على الجميع أن يبحثوا عنه إذا أرادوا الكتابة حول خفايا وكواليس تجارة المخدرات، وقد اعتَدتُ البحث عنه في قسم التحرير بالجريدة الأسبوعية التي كان قد أسسها، وكذلك في كافيتيريا “رايولو”.
في هذه البلاد كان “صاحب القبّعة” مرجعا وطنيا لنا جميعا نحن الذين نريد التحدث عن الجريمة المنظمة دون أن يقتلونا، قتلوه قبل ثلاث سنوات؛ كانت مقابلة جدلية أجراها الرجل سببا كافيا لتفتك به إحدى العصابات الإجرامية.. طلقتان على بعد شارعين من مقر صحيفته، جعلتا قبعته تستقر أخيرا على الأسفلت مضرجة بدمائه، كان مقتله كفيلا بأن يزلزل الشارع العام من صحافيين ومحامين في كل البلاد، مظاهرات عارمة جابت الشوارع مطالبة بالقصاص العادل. ولكن اليوم لا يقبع خلف القضبان سوى الرجل الذي نفذ الجريمة مقابل أجره، أما من دبروا الأمر وخططوا لقتله فهم يعملون بحرية تامة ويمارسون نشاطاتهم بحصانة كاملة ودون أي عقاب!!
كان جسمها ضئيلا جدا، بالكاد يبلغ طولها مترا وثمانية وخمسين سنتيمترا. دائما ما كانت ترتدي أحذية تشبه الجزمة العسكرية أو جزم العمال، تلك المراسلة التي كانت تغطي نشاطات المؤسسات الوطنية، وتبحث في مظالم مرتكبة ضد السكان الأصليين وانتهاكات حقوق الإنسان والاعتداءات المتكررة على البيئة، والمحسوبية التي تمارس لصالح شركات أجنبية، هي نفسها كانت قد رفضت وزملاءها الحديث أو الكتابة عن تجارة المخدرات، بفعل الخوف طبعا. في صباح يوم من أواخر نيسان وجدوها مشنوقة بمنشفتها الخاصة في حمام منزلها. كشف الطب الشرعي عن ضربات على وجهها ومناطق أخرى من جسدها، ولم يخرج قاتلوها سوى بهاتفها المحمول وجهاز الكمبيوتر الشخصي وساعة يد والقليل من النقود.
ادَّعت الشرطة أنها “جريمة سرقة”، بعد ذلك غيّروا مجرى التحقيق فقالوا: “جريمة عاطفية”، وبعد ثماني سنوات تمكنت الشرطة من القبض على واحد من اثنين مشتبه بهما في ارتكاب الجريمة، وهو يعاني من فيروس العوز المناعي، أي أن أيامه ستكون معدودة في السجن، أما الثاني وهو سارق هواتف محمولة معروف وبحقه سوابق جنائية، فلم تتمكن من اعتقاله قوات النخبة التابعة لمكتب المدعي العام، حصانة واضحة كعين الشمس في جريمة قتل تكاد تكون جريمة دولة.
هذه هي الحال هنا، وهذه هي الطريقة التي قتل بها مائة وخمسون صحفيا في هذه المنطقة على مدى العشرين عاما الماضية، كانت السنوات الست الأخيرة منها هي الأكثر دموية؛ مراسلون يختطفون من بيوتهم أو مقرات عملهم، يؤخذون بعنف من البارات والحانات بينما هم يحتسون قليلا من الويسكي ليقتلوا على أبوابها بدم بارد، يغتالون بكل قسوة قرب مؤسساتهم الصحفية، أو يختفون بعد هجمات تنفذها جهات مجهولة (تابعة لعصابة أو حكومة)، وإلى اليوم لا أحد يعرف مصيرهم أو مكان وجودهم.
خطرة إلى أبعد الحدود صارت كتابة التقارير في هذا المكان، تخيل أنه في شمال خليج البلاد وصل الحال إلى قتل مراسلين مدنيين كلُّ ذنبهم أنهم نشروا معلومات عادية حول مشاحنات أو مشاجرات نشبت على تويتر.
أما التحقيقات والإجراءات القضائية فهي لم تزل تراوح مكانها وتبريراتها المعهودة؛ أن المراسل كان ينتهج سلوكيات غير مسؤولة، أو أن لديه عداوات مع الآخرين، أو أنه للأسف تواجد في المكان والزمان غير المناسبين، حتى كلامهم في التحقيقات ما زال يسلك المنحى ذاته؛ أنه لن تكون هناك حصانة لأحد، وأنهم سيواصلون التحقيقات مهما كلف ذلك، “وليسقط فيه من يسقط”. لكنا رأينا الحكومات هي التي تسقط وتجيء حكومات غيرها، لتظل الحصانة وحدها هناك، جارحة ومؤلمة تلك الحصانة، لقد وصل بنا الحال أنا وزملائي أن نتساءل بيننا وبين أنفسنا: “من سيكون التالي؟”.
لكن، على صعيد المتضررين من تلك الجرائم هناك عائلات الضحايا، والتي قد نرى فيها حالات نموذجية وأمثلة تضرب بقوة على سبيل النضال في طلب العدالة، زوجة “صاحب القبّعة” جاءت لتعيش في العاصمة، بدأت في البحث عن أصدقائه كي تطالب بالقصاص العادل من القتلة، رأيتها في احتجاجات ومظاهرات للمحامين، وفي محافل مختلفة لتجريم القاتلين وتكريم الكاتب والمؤرخ الوطني الكبير، أخوات زميلي الذي قتل في العاصمة كذلك ومعهن أربع شابات أخريات لا يتركن ندوة في جامعة أو مؤسسة دون أن يذهبن إليها للحديث عن أعمال المصور الذي قتل بعد أربعين يوما فقط من فراره من المكان الذي هددوه فيه.
إن الورقة التي تطرحها هذه الأرامل في الصحافة واضحة وجليّة؛ “نريد أن نعرف الذنب الذي اقترفه أزواجنا ليُقتلوا، وأن نُحييَ ذكراهم بشيء من الحقيقة.. والعدالة”!!
معهد الجزيرة للإعلام