منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، بدأت الشروط التاريخية التي نشأت فيها وسائل الإعلام في الشطر الأفريقي من العالم العربي في التفكك، حيث لم تعد الدولة أو النظم السياسية تحتكر هذه الوسائل تحت وطأة التطور التكنولوجي. وتالياً لم يعد الإعلام جهازاً أيدولوجياً فعالاً للنظام السياسي.
هذا التحول الجذري في أدوار الإعلام، سينسحب لاحقاً على طبيعته وطبيعة الفاعلين فيه، وصولاً إلى الثورات التي مست جزءا من شمال أفريقيا، وعمقت التحول الإعلامي على نحو غير مسبوق.
يسعى كتاب “فضاءات الإمكانيات: الإعلام في شمال أفريقيا منذ التسعينيات” (1) (بالفرنسية)، الذي حرره كل من بشير بن عزيز وعبد الفتاح بنشنة ودومينيك مارشيتي، وصدر عن المعهد الفرنسي للأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالمغرب (مركز جاك بيرك)، إلى تحليل هذه التحولات التي جرت في فضاءات الإعلام الوطنية في الجزائر ومصر والمغرب وتونس، استناداً إلى مناهج العلوم الاجتماعية، من خلال ثماني دراسات ومقدمة منهجية عامة.
في المنهج
ينطلق محررو الكتاب منذ المقدمة في طرح الإشكاليات المنهجية لتحليل مسار التحولات الإعلامية في شمال أفريقيا، من خلال الإقرار بأن دراسة الصحافة والإعلام تحتل مكانًا صغيرًا جدًا في البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، على الرغم من أن المساحات الإعلامية في هذه المنطقة قد شهدت تحولات منذ التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ولعل أبرز هذه التحولات هو ظهور “جهات فاعلة” جديدة بخلاف الدولة والأحزاب السياسية المرخص لها، تستثمر اليوم في هذا القطاع: رجال الأعمال، الصحفيون، المراسلون، المتخصصون في التسويق، والمجتمع المدني. وكذلك ظهور أنماط جديدة للإنتاج الصحفي وتنويع العرض الإعلامي وتوسيع نطاق الجمهور المستهدف، الذي كان يقتصر سابقًا على قراء الصحافة الحزبية والرسمية أو مشاهدي التلفزيون الحكومي.
يقدم المؤلفون القادمون من تخصصات مختلفة (علوم الإعلام والاتصال، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع) تحاليل قائمة أساساً على استطلاعات ميدانية حول وسائل الإعلام في الجزائر ومصر والمغرب وتونس، في قطع مع ظاهرة “البحث العلمي الجالس”، حيث دأبت الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالإعلام على اعتماد مصادر بحث تدور حول الشبكات الاجتماعية والصحافة، والمسوحات القصيرة المدى.
لكن هذه الأفضلية في إنتاج معرفة مصدرها الميدان واجهت العديد من العوائق، حيث يشير محررو الكتاب إلى القيود التي اعترضت بعض الباحثين في عملهم، لا سيما في الجزائر ومصر، حيث لم يعد التضييق يستهدف الصحفيين فحسب، بل يستهدف أيضًا الأكاديميين والباحثين. كما أن رفض المقابلات التي عانى منها مؤلفو العمل، والبيروقراطية الإدارية في بعض الأحيان، وكذلك استحالة الحصول على بيانات إحصائية أساسية حتى في حالة وجودها، تكشف عن أمثلة على هذه العقبات. يضاف إلى ذلك هشاشة مؤسسات التدريس والبحث في شمال أفريقيا وضعف استقلاليتها العلمية، رغم وجود كوادر أكاديمية جيدة.
لكن هذه القيود لم تمنع الدراسات المتضمنة في الكتاب من كسر سلسلة من التحيزات التحليلية الشائعة جدًا في حقل العلوم الاجتماعية في مجالات الإعلام في البلدان التي تتحكم بقوة في إنتاج ونشر المعلومات.
إن مدى التحولات المعاصرة التي أعقبت تطور وسائل الإعلام الخاصة غير الحزبية في تسعينيات القرن الماضي أو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يدعونا، أولاً، إلى نبذ أي نهج سياسي واختزالي، حيث لا يمكن دراسة إعادة تشكيل المساحات الإعلامية في المغرب كما في الجزائر وتونس ومصر فقط في ضوء “الانفتاحات” السياسية والمؤسسية التي تمنحها أو تفرضها الأنظمة القائمة. وغالبًا ما يتم تحديد هذه الفترات بفترات تاريخية دقيقة. أدت أهمية القيود السياسية التي تثقل كاهل وسائل الإعلام في هذه البلدان إلى تركيز المراقبين لفترة طويلة على “النظام” أو الدولة وحدها، بوصفها فاعلا احتكاريا، وكذلك على تطور الأنظمة القانونية للصحافة. وعلى الرغم من الأهمية التي لا يمكن إنكارها لدور النظام السياسي وتشريعاته، فإن معظم هذه الأعمال تعاني تحيزا مؤسسيا.
كما يشير قسم واسع من الكتاب على المستوى المنهجي إلى “مدرك الوطنية أو الوحدة الوطنية” بوصفه عاملاً أساسياً في سياسات الدولة تجاه وسائل الإعلام في دول مثل الجزائر والمغرب ومصر، حيث تصبح مساحة الحديث في المجالين السياسي والإعلامي محدودة بتعدد “الخطوط الحمراء” فيما يتعلق بالسياسة والدين والجيش ووحدة الأراضي.
الأجهزة التنظيمية المستقلة
المدخل الأول الذي يقترحه الكتاب لدراسة هذه التحولات في فضاءات الإعلام الوطنية في الجزائر ومصر والمغرب وتونس هو فحص مسار ولادة وتطور ما يسمى بالهيئات “التنظيمية”، من خلال تحليل علاقتها بالسلطة السياسية ومختلف الفاعلين الذين يتدخلون في المجال الإعلامي (رأس المال، الصحفيين …).
في الفصل الأول، المخصص للتنظيم السمعي البصري في تونس ما بعد بن علي، يشكك العربي شويخة، الأستاذ في معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس، في مدى مرونة هذا النوع من الهيئات: من ناحية ولادتها في سياق سياسي غير مستقر بشكل خاص؛ ومن ناحية أخرى، في تعاملها مع مشهد إعلامي في حالة تحول مستمر ورأسمال غير مستقر، تميز بشكل خاص بظهور رجال الأعمال على رأس القنوات التلفزيونية التجارية وتوظيف وسائل الإعلام في الصراع على السلطة. وكذلك استمرار سيطرة الدولة على وسائل الإعلام من حيث الملكية، بالإضافة إلى أنها تمتلك قناتين تلفزيونيتين، الوطنية 1 والوطنية 2، ومؤسسة الإذاعة التونسية التي تدير حوالي عشر محطات إذاعية منتشرة في جميع أنحاء البلاد، فهي مساهم في عدة وسائل إعلامية خاصة، كانت أسهمها مملوكة لعائلة بن علي، ثم صودرت، مثل إذاعة شمس إف إم وزيتونة إف إم الدينية.
لكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمعظم هذه المؤسسات، العامة منها وتلك التي تمت مصادرتها، أصبح محفوفًا بالمخاطر حيث يعاني العديد منها صعوبات هيكلية (زيادة عدد الموظفين، وسوء الإدارة)، وجميع الحكومات المتعاقبة منذ 14 يناير/ كانون الثاني 2011 مترددة في إجراء إصلاحات جذرية، خوفًا من المسؤولية الاجتماعية لعشرات الموظفين والعاملين.
من خلال تحليل أنشطة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري خلال انتخابات 2019 وبناءً على مقابلات مع الجهات الفاعلة المعنية، يوضح بن شويخة حدود ومفارقات هذه الهيئة.
وبينما كان من المفترض أن تضمن الهيئة العليا للاتصال تعددية الأفكار، وحياد الإعلام، وتكافؤ الفرص بين جميع المرشحين، فإنها ظلت عاجزة عن تنفيذ أو تطبيق قراراتها، خاصة مع وجود قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية تبث دون ترخيص من الهيئة، ويعود ذلك أساساً إلى هشاشة مؤسسات الدولة وخاصة في ظل نظام التوافق الذي كان حاكماً بين 2014 و2019. ومع ذلك، يظل وجودها ضروريًا، فيما يتعلق بـ”المعايير الدولية للتنظيم الديمقراطي”، ولا يمكن فصله عن استراتيجيات الشرعية السياسية للحكومات المختلفة بعد عام 2011.
وفي الفصل الثاني يحاول أحمد حداس، الأستاذ في المعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، تحليل السياقات التي ولد فيها المجلس الوطني للصحافة في المغرب وطبيعته المؤسسية وأهدافه، منطلقاً من فرضية تشكيكية في الهدف الحقيقي من إنشاء هذا الهيكل التنظيمي للمهنة: هل هو هيئة لتنظيم الصحافة وتعزيز حرية الصحافة أم أداة للرقابة في خدمة السلطة؟ فبعد سنوات من إدارة الإعلام في المغرب الأقصى من خلال آليات يمكن وصفها بـالعقابية، أقر دستور 2011 إنشاء هيئة دستورية هي المجلس الوطني للصحافة، مهمتها تنظيم المهنة في القطاع الخاص حصراً، حيث يخضع الصحفيون في القطاع العام للقوانين واللوائح الداخلية لمؤسساتهم. يشير حداس بوضوح إلى هذا التناقض الذي يحكم عمل المجلس. ليس ذلك فقط، بل يتعداه إلى طريقة اشتغاله وعضويته، حيث يتلقى موازنته من الحكومة ولكن يدار من طرف محترفين في المهنة. ويخلص الباحث إلى أن المجلس أقرب إلى أن يكون أداة تحكم تعيد من خلالها السلطة السياسة إنتاج حالة السيطرة على الصحافة بوجه أكثر ديمقراطية.
في الفصل الثالث يدرس شريف إدريس، الأستاذ في المدرسة الوطنية للصحافة وعلوم المعلومات بالجزائر، “الرقابة الشديدة على مجال الإعلام في الجزائر” من خلال تحليل القوانين الجديدة لتنظيم الإعلام في البلاد. في عام 2012، صدر قانون أساسي بشأن المعلومات وتقنين مجال الإعلام، وتم تعزيز هذا النظام القانوني في مارس/آذار 2014 من خلال قانون السمعي البصري، وفي آب/أغسطس 2016، عبر تنفيذ المراسيم التي تحدد شروط إنشاء محطات تلفزيونية وإذاعية خاصة. سمح التكوين القانوني الجديد بتعددية وسائل الإعلام وكسر احتكار الدولة للوسائل السمعية والبصرية. وفي خلفية هذه الطفرات القانونية، تبرز مسألة تنظيمه. ينص القانون الأساسي لعام 2012 على وجود سلطتين في هذا المجال: واحدة للقطاع السمعي البصري والأخرى للصحافة المكتوبة. ولئن تم إنشاء الأولى في عام 2014، مدعومةً بنص قانون يحكم هذا القطاع، فإن تنظيم الصحافة المكتوبة ما زال بطيئا. إن تنظيم وسائل الإعلام الجزائرية بكل تنوعها هو الموضوع الرئيسي لهذا الفصل، حيث ستكون المسألة ليست فقط الإطار القانوني والمؤسسي الذي يحكم هذا النشاط ولكن أيضًا طريقة التنظيم المعتمدة في هذا الشأن. ومع ذلك، لا يمكن دراسة السياسات التنظيمية بمعزل عن سياقها السياسي. فالتحولات في الفضاء الإعلامي الجزائري هي أيضًا نتيجة لإعادة التشكيل السياسي التي تهدف إلى السماح للنظام بإعادة إنتاج نفسه.
تحديات إعادة التشكيل
يعالج الفصل الرابع والخامس والسادس مسألة تحديات إعادة هيكلة الفضاءات الإعلامية الوطنية في شمال أفريقيا بعد تطور الإعلام الخاص، من خلال نماذج من مصر والمغرب عبر استقراء الشروط التاريخية لنشوء وسائل الإعلام الخاصة، التي هي نتاج العلاقة بين المجالات السياسية والاقتصادية والإعلامية. في الفصل الرابع يدرس بشير بن عزيز، الباحث في جامعة كوت دازور الفرنسية، زاوية شديدة التفصيل في الصحافة المصرية خلال العشرية الأولى من هذا القرن وهي بروز شخصية “صحفي الحركة الاجتماعية” التي ميزت الصحف المستقلة في آخر عهد حسني مبارك. وقد تزامن ذلك مع تطور الحركات الاجتماعية، ونجاح الصحف الخاصة غير الحزبية في افتكاك الجمهور من الصحف الحكومية المهيمنة ووصول جيل جديد من الصحفيين. ويحلل بن عزيز بالاستناد إلى دراسة السير الذاتية المهنية للصحفيين، كيفية إضفاء الشرعية على شخصيات من هذه الفئة. كما يشير الباحث إلى أن توسيع رأس المال الضخم لقطاع الإعلام شكّل خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الحل التاريخي لمختلف القيود المفروضة منذ الستينيات لمنع ظهور صحافة تنتقد السلطة. وقد أدى عجز الصحافة عن الدفاع عن “مُثُل 25 إلى عودة الجيش إلى السلطة وإلى تحديد موقع الديناميكيات السياسية”. في هذا الواقع الجديد تراجعت “صحافة الحركة الاجتماعية” لفائدة “الصحافة الحقوقية“حيث لم يعد التركيز على الحركة الاجتماعية بل على قضايا حقوق الإنسان ومتابعة القضايا المرفوعة على الإعلاميين أو المعارضين السياسيين أو النشطاء أو الفاعلين في المجتمع المدني.
في فصل خامس بعنوان “السمعي البصري في مصر من 2000 إلى 2020: قطاع تحت السيطرة” تحلل ماريا أديب، المدرسة المساعدة في جامعة ليل الفرنسية، التحولات التي شهدها قطاع السمعي البصري في مصر بين النظامين السابق والحالي. يتعلق الأول بـ”الاستبداد المرن” خلال العقد الأخير من ولايات حسني مبارك (1981-2011). فقد اتسم هذا التكوين بإلغاء احتكار الدولة للقطاع. أما الثاني فيتعلق بمصر ما بعد 2013، حيث قرر عبد الفتاح السياسي إعادة إنتاج حالة الاحتكار التي كانت قائمة قبل عام 2001، تاريخ إنشاء قناة دريم تي في، وهي أول قناة فضائية خاصة أسسها رجل الأعمال المصري أحمد بهجت. تفسر الباحثة التحولات التي حدثت على مستوى ملكية وسائل الإعلام بطبيعة كل نظام سياسي. كان مبارك، بداية من التسعينات، قد أقام نظامه على طبقة اجتماعية مؤلفة من رجال الأعمال والبورجوازية الكبيرة وبالتالي كان مجبراً على خوض تجربة الخصخصة في كل القطاعات دون استثناء. في المقابل تتكون الطبقة الحاكمة في عهد السيسي أساساً من النخبة العسكرية التي تميل إلى نزعة الاحتكار بقوة الدولة في جميع قطاعات الاقتصاد، ولا سيما الإعلام بوصفه قطاعاً اقتصادياً وجهازاً دعائياً في الوقت نفسه. وهذه النزعة الاحتكارية أدت في النهاية إلى حالة من مصادرة الخطاب العام وتوحيد محتوى الوسائط.
وفي الفصل السادس يدرس دومينيك مارشيتي، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية، (فرنسا) الشروط التاريخية والسياسية لولادة الصحف الخاصة غير الحزبية في المغرب من خلال نموذج صحيفتين اقتصاديتين. كان المشهد الصحفي المغربي منذ الاستقلال حتى تسعينات القرن الماضي مقسماً بين الصحافة “الرسمية” والصحف اليومية للأحزاب السياسية. في العقد الأخير من القرن العشرين بدأت تظهر للوجود صحف مستقلة خاصة هي جزء من عملية “التحرير” الاقتصادي والسياسي للمغرب منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في سياق الاندماج الدولي في “تحرير” الاقتصاد والتجارة. ولأنها وليدة هذا السياق التحرري، فإن هذه الصحف الجديدة كان أغلبها يدافع عن “التحرير”، و”التحديث” الاقتصادي والسياسي للمغرب. ويعتمد مروجوها بشكل أساسي على عائدات الإعلانات الكبيرة، وعلى قراء يتألفون من الأجزاء الحضرية من الفضاء الاجتماعي الذي يتمتع بأكبر قدر من رأس المال الاقتصادي والثقافي، أي إنها إحدى تعبيرات الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، الساعية إلى ليبرالية الفضاء السياسي والاقتصادي.