أحمد سعداوي
1 ـ
قد يبدو من المثير بالنّسبة للمتابع أن يلاحظ أنّ الصّحافة وفنّ الرّواية الحديثين خرجا من رحم واحدة تقريبًا، عمادها الأساس تضافر صعود البرجوازيّة الأوروبيّة مع ولادة الطّباعة الحديثة بالحروف المنفصلة في القرن التّاسع عشر، المتطوّرة عن اكتشاف الألمانيّ غوتنبرغ.
يرى ألبيريس في كتابه “تاريخ الرّواية الحديثة” أنّ الرّواية مرّت خلال نشوئها بمراحل عدّة، ولكن “التحوّل الكبير الّذي سيؤكّد نموّها وقوّتها ونجاحها” قد حدث في القرن التّاسع عشر؛ إذ غدت الرّواية “وثيقة” محوّلة إلى رواية. “وهذا التّحوّل يعود إلى ظروف نشرها. ولن نستطيع أن نفهم الرّواية الواقعيّة الكبرى في القرن الماضي [يقصد القرن التّاسع عشر] ما لم نلحظ قبل كلّ شيء أنّها كانت موجّهة أوّل الأمر للظّهور في مجلّة أو جريدة يوميّة”.
كلّ ما بين الأقواس الصّغيرة في الفقرة أعلاه مقتبس من الكتاب آنف الذّكر: الصفحات 41 و42. ويوضّح ألبيريس لاحقًا أنّ النّجم الأكبر لتيّار الرّواية الواقعيّة – الّتي تمثّل تحوّلًا كبيرًا في مسار الرّواية حتّى يومنا هذا- هو الرّوائيّ الفرنسيّ بلزاك. ويتضمّن التّيّار الصّاعد أسماء من مثل الإنكليزي ديكنز، ويتوّج لاحقًا باسم كبير هو الروسي ديستويفسكي.
دلالات هذا التحوّل عديدة، ولكنّني أنتقي منها هنا الإشارة إلى الحامل الثّقافيّ/الاجتماعيّ للعصر، وهو في المثال أعلاه كان الجريدة والمجلّة. فلم يكن للرّواية الواقعيّة أن تظهر دون وجود الصّحيفة، وكلّ روايات نجوم هذا التّيّار ظهرت مُسلسَلَةً في الصّحف، بل إنّ ألبيريس يجزم أنّ روائيًّا مثل ديستويفسكي لم يكن سوى “كاتب روايات متسلسلة”، وأنّ ديكنز ما كان له أن يغدو روائيًّا لولا وجود الصّحف.
كانت الصّحف في الحقيقة ابتداءً من ذلك الوقت، وفي وسَط منفتِح نسبيًّا وقليل الرّقابة، تستفيد من الرّوايات المتسلسلة لزيادة مبيعاتها بين القرّاء. وقد لا يبدو غريبًا بعد ذلك أن نعرف أنّ الرّوايات المتسلسلة والمبالغ الّتي يتقاضاها الرّوائيّ آنذاك لقاء المزيد من الفصول لروايته المنشورة في الصّحيفة، كانت سببًا في سماكة حجم الرّوايات حين طُبِعَت في مجلّدات لاحقًا.
أميل شخصيًّا إلى افتراض أنّ هناك منطقة أعمق لتشابك العلاقة ما بين الصّحافة والرّواية؛ فكلا الفنّين يغترف من الواقع الحيّ، كما أنّ كلاهما (الرّواية والصّحافة) كانا على أعتاب اختراع لغة جديدة، خارج لغة الكتب التّراثيّة. وفي المثال الأوروبيّ أسهمت الصّحافة والرّواية معًا في تطوير اللّغات الوطنيّة الأوروبيّة وإثرائها على حساب اللّاتينيّة المندثرة.
وهذا مسار مشابه في واقع الحال لما جرى في العالم العربيّ؛ فالصّحافة كانت تتابع الحوادث اليوميّة والأخبار المتنوّعة ذات المصادر الحياتيّة، وكان الكاتب الصّحفيّ مضطرًا إلى “اختراع” لغة جديدة مهجَّنة، هي خليط من اللّغة التّراثيّة والمفردات والمسمّيات والصّياغات الشّعبيّة السّائدة. حتّى إنّ بعض رجال الدّين أدانوا هذه اللغة، واشتكى البعض الآخر من ضياع اللّغة العربيّة والتّهديد الّذي تتعرّض له بسبب لغة الصّحافة.
لكنّ الصّحافة -بسبب طبيعتها الخاصّة، وباعتبارها وسيلة اشتباك لغويّ مع واقع متحرّك وحيّ- أسهمت في تطوير اللّغة العربيّة، بل إنّني أعتقد أنّ الأدب العربيّ كان يستفيد من اللّغة الّتي اخترعتها الصّحافة، وصارت مع ظهور الإذاعة والتّلفزيون لغة شفاهيّة نسمعها ونتأثّر بها على مدار الوقت.
2 ـ
نقطة التقاء أخرى بين الصّحافة والرّواية هي سعيهما لتمثيل الواقع. وكان هذا الاهتمام كان موازيًا للتّدوين، وكأنّ عصر الشفاهية كان مناسبًا لحكايا الارتحال الى الخيال المفرط، كما في قصص السّيرة الهلاليّة وألف ليلة وليلة وعنترة بن شداد وغير ذلك. يوازي ذلك في الصّحافة، أو الجذور البعيدة للصّحافة، انتقال الأخبار مشافهةً، مع ما يصاحب ذلك من اختزال وتكثيف، وتركيز على الأحداث المهمّة فقط.
يبقى أنّ الصحافة -بسبب طابعها الشّموليّ وإيقاعها الأسرع من إيقاع إنتاج الأدب- كانت متقدّمة دائمًا في إحراز الواقعيّة على الأدب؛ فالصّحيفة الّتي تصدر بعدّة صفحات تعطي صورة شاملة عن العالم كما كان يوم أمس، أو هكذا توحي لقارئها. ثمّ تُنسَخ هذه الصّورة أو تُعَدَّل في عدد يوم غد، وهكذا تباعًا، في إثراء وتوسيع ونقض ومحو وتكثير لا يستطيع الأدب مجاراته أبدًا.
بل إنّ الأدب لاحقًا صار يستعير من الصّحافة وقائع أو حوادث أو تفصيلات يحتاجها في بناء معماره الفنّيّ، كما فعل مثلًا فلوبير مع روايته “مدام بوفاري” الّتي التقط حكايتها من خبر في صحيفة.
من زاوية أخرى، كان لتطوّر الصّحافة أثر في جعل المادّة الصّحفيّة منافسًا للأدب نفسه. إنّ القصّة الصّحفيّة، والمقال الرّائق بقلم أديب متمكّن من محاسن اللّغة، يشبع حاجات القارئ للمطالعة وإزجاء الوقت للمتعة والفائدة معًا، وكأنّ الصّحافة بهذا تغزو المناطق الخاصّة للأدب وتستعمر أجزاءً منها.
إنّ الكاتب الصّحفيّ يمدّ قارئه بمادّة منتظمة على مدى أيّام أو أسابيع، ويبقى على صلة حيّة معه، كما أنّه يلاحق ما يشغل هذا القارئ ويعلّق عليه، على خلاف الأديب الّذي ينكفئ إلى عزلته الكتابيّة السّنة والسّنتين لإنجاز عمله الروائيّ، وهو عمل -بسبب طبيعته الخاصّة- يعلّق على حوادث ماضية، ويفكّك مراحل زمنيّة صارت من التّاريخ وليست من الواقع الرّاهن المتحرّك.
3 ـ
تذهب الصّحافة إلى السّجلّ المدنيّ للوقائع من جرائم وزيجات وطلاقات ومشاكل اجتماعيّة مدوّنة، كي تصنع منها مادّتها الصحفية، ولكن بالزاك قال ذات يوم إنّه يطمح إلى جعل الرّواية تنافس السّجلّ المدنيّ في دقّته وثرائه الأنثروبولوجيّ والمعلوماتيّ.
هذا ما أعادت رواية القرن العشرين النّظر فيه، بل إنّ تعزيز الصّحافة لمكانتها باعتبارها مرآة واقعيّة لعصرها، دفع الرّوايةَ الى التّفكير بمساحات لم تغزُها الصّحافة بعد.
ظهر ذلك بوضوح مع الرّواية الحداثيّة الّتي جعلت من التّحليل النّفسيّ موضوعًا معرفيًّا وفلسفيًّا لها، فَسادَ تيّارُ الوعي في هذه الرّواية، وصارت الرّواية تكتب نصوصًا لا تشبه الصّحافة، أو بتعبير أدقّ: لا تستطيع الصّحافة أن تستفيد منها، كما هو الحال مع رواية “يوليسيس” لجيمس جويس أو “البحث عن الزّمن المفقود” لبروست.
صارت الرّواية منفصلة عن “واقعيّة الصّحافة”، بل وتشكّك في أنّ الصّحافة تعكس الواقع فعلًا، وتؤكّد أنّ هناك مسارات أخرى للواقع لا تستطيع الصّحافة رصدها أو نقلها.
إنّ الأدب ضمن هذا التّفكير هو أكثر واقعيّة وصدقًا من الصّحافة؛ لأنّ الواقع المعكوس فيه أكثر كثافة وتنوّعًا، بينما ذلك المعكوس في الصّحافة يبقى مسطّحًا ومختزلًا ومكثّفًا وسهلَ التّناول والهضم.
جاءت الرّواية الفرنسيّة الجديدة لترمي نفسها مسافة أبعد عن واقعيّة الصّحافة، أو نمط القصّة الصّحفيّة. لتتخلّى عن الدراما وعن العقدة والذّروة في الأحداث، بل وعن الشّخصيّة الإنسانيّة نفسها، كما في رواية “غيرة” لآلن روب غرييه.
لكنّ هذا الانشغال بما يجعل الأدب أدبًا محضًا غير قابل للاستثمار من قبل الفنون المجاورة -كما الصّحافة أو حتّى السينما الّتي سطت هي الأخرى على مساحات كانت حكرًا على الأدب سابقًا- انتهى بالأدب الى أن يغترب أكثر، ويتحوّل الى شيء خارج التّواصل البشريّ، أو يقترح للتّواصل شروطًا معقّدة لا تتوفّر عند الجميع غالبًا.
4 ـ
من المثير أنّه برغم تواتر التّأكيد عند الأدباء الروائيّين عبر حقب ومراحل مختلفة على الحاجة إلى ما يجعل الأدب أدبًا، فإنّ العلاقة “الأخويّة” مع الصّحافة ظلّت وثيقة.
قد ينظر الرّوائي إلى النّصّ الصّحفيّ على أنّه نصٌّ يوميّ مستهلك، سرعان ما يذوي صباح اليوم اللّاحق، ولكنّ الروائيّ هو نفسه، من بين كلّ مقتني الصّحف الّذين سيمسحون بأوراقها زجاج نوافذهم في اليوم التّالي، مَن يعرف أهمّيّة هذا الخبر اليوميّ العابر، باعتباره وثيقة يرجع إليها في عمله اللّاحق.
لقد اعتاش كلّ الأدباء على أرشيف الصّحافة بصفته مادّة أساسيّة في جمع المعلومات، وضبط تواريخ الحوادث، أو حتّى وصف ملابس وتسريحة شعر شخصيّة ما ظهرت في صورة بصحيفة.
كما أنّ الأدباء يقيمون في جزيرة مجاورة لجزيرة الصّحافة. ومن يراجع التّواريخ سيرى أنّ الكثير من الأدباء هم إمّا صحفيّون أو ينشرون بانتظام في الصّحافة، وبدت مهنة الصّحافة هي المهنة المعتادة -وربّما المحبّبة- لممارسي الكتابة الأدبيّة.
كما أنّ الأديب، حتّى يومنا هذا الذي سادت فيه مواقع التّواصل الاجتماعيّ، سيبقى يبحث عن صورته في الصّحافة، وصورة ما نشرَه من مؤلّفات وروايات.
إنّه يعترف بأنّ الظّهور في الصّحافة هو ظهور في الواقع. وما لا يظهر في الصّحافة سيكون من السّهل التّشكيك بوجوده في الواقع.
من أشهر الأمثلة على عمل الأدباء في الصّحافة هو آرنست همنغواي، الّذي كان مراسلًا في أوروبا لتغطية الحرب الأهليّة الإسبانيّة، ثمّ الحرب العالميّة الثّانية في أماكن متعدّدة من أوروبا والعالم.
ولا أورد مثال همنغواي من أجل ذلك فحسب، وإنّما لأنّه اعتمد اللّغة البرقيّة المتقشّفة الّتي كان يكتب بها تقاريره ويرسلها إلى صحيفة “كنسانس” في أمريكا، في كتابة قصصه. وكان لهذه اللّغة الأدبيّة الخاصّة تأثير في أديب أكبر سنًّا منه هو وليم فولكنر. ثمّ أثّرت لاحقًا -ما بعد شحوب تيّار الواقعيّة الفرنسيّة الجديدة، في منطقة الرّدّ على رهبنتها الأدبيّة- على تيّار الواقعيّة السّحريّة، الّتي مثّلت منطقة متقدّمة لأدب ما بعد الحداثة في العالم، وبالذات عند غابرييل غارسيا ماركيز، الّذي بدأ مثل همنغواي حياته العملية صحفيًّا، بل وغدا صحفيًّا معروفًا وشهيرًا في كولومبيا قبل أن يُعرَف بصفته روائيًّا قديرًا.
لقد أنهت تيّارات أدب ما بعد الحداثة هذا الارتياب من الصّحافة ولغتها وسطوتها لتمثيل “النّصّ الأكثر واقعيّة” عن الحياة. وصرنا نقرأ مثلًا روايات مكتوبة بلغة الرّوبرتاج الصّحفي، كما في الأعمال الأولى لماركيز.
صار هناك نوع من الاعتراف بأنّ الصّحافة بسبب طبيعتها الخاصّة هي المعمل الأساسيّ الّذي تُصنَع فيه اللّغة الجديدة كلّ يوم، وأنّ الهروب منها هو نفي إلى مناطق قاحلة لا يوجد فيها شيء لم تستولِ عليه الصّحافة بعد.
5 ـ
على المستوى الشّخصيّ؛ كنتُ صبيًّا مراهقًا حين دخلتُ دار ثقافة الأطفال التّابعة لوزارة الثّقافة العراقيّة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كرسّام متمرّن، ثمّ سرعان ما رأيتُ قصّة “كومكيس” مسلسلة منشورة لي في أحد أعداد مجلّة “مجلّتي” الّتي كانت تصدُر عن الدّار آنذاك.
كان هذا أوّل اشتباك لي أنا الكاتب المبتدئ والرسّام مع الصّحافة، ثمّ عُدتُ شابًّا وعملتُ في عقد التّسعينيات في مهن صحفيّة عديدة، مصحّحًا لغويًّا ومصمّمًا طباعيًّا ومنفّذًا، وكنت أتجنّب العمل الصّحفيّ في ذلك الوقت، ولكنّ الأمر اختلف بعد 2003، فدخلت بقوّة عالم الصّحافة ونلت جوائز عن تحقيقات صحفيّة نشرتها.
عملت في الصّحافة الورقيّة في أهمّ الصّحف العراقيّة، والإذاعيّة مراسلًا لراديو البي بي سي في بغداد، والتّلفزيونية معدًّا وكاتبًا ومخرجًا للبرامج والأفلام الوثائقيّة في قنوات الحرّة الأمريكيّة والقناة العراقيّة الرّسميّة وغيرها.
يمكنني القول، بثقة، إنّ للصّحافة فضلًا كبيرًا على شخصيّتي بصفتي أديبًا وروائيًّا. لقد منحتني فرصة ثمينة لتغذية فضولي للتعرّف، ووفّرت لي سببًا معقولًا كي أذهب الى أقصى الجنوب، في ميناء النكعة بالفاو المطلّ على الخليج، أو إلى مدينة الشيخان في شمالي الموصل، أتفحّص دير الربّان هرمز أقدم الأديرة المسيحيّة في العراق والمنطقة وأغربها، فالجزء الأساسيّ منه محفور على الجبل الكلسيّ.
بسبب الصّحافة أعدت اكتشاف الحياة من حولي، وتعرّفت على بلدي بشكل أوثق. كما أنّ الطّابع العمليّ للكتابة الصّحفيّة روّض نزقي الأدبيّ ومزاجي الكتابيّ؛ فأنا ملزم غالبًا بتسويد العديد من الصّفحات، ليس استجابة لوحي أو إلهام، وإنّما لأنّه عمل مطلوب منّي.
هذا التّرويض كان مفيدًا في تطويع برنامجي الكتابيّ السّرديّ، وفي أن ألزم نفسي بمواعيد لإنجاز رواياتي ورفع لياقتي الكتابيّة، بحيث لا أتبرّم ولا أتضايق من طول الوقت الّذي أنفقه في سبيل إنجاز فصلٍ من رواية جديدة.
الشّيء الآخر الأساسيّ أنّني أستثمر الكثير من تقنيات الروبورتاج الصّحفيّ وأوظّفها في الكتابة الرّوائيّة. وفي الجانب الآخر، أعرف تمامًا أنّ اللّمسة الخاصّة في كتابتي الصّحفيّة آتية من مهاراتي الأدبيّة، وكأنّ الفنّين هنا يخدمان بعضهما البعض ويقدّمان أدواتهما لبعضهما.
لكنّ هذا في الصّورة الإجماليّة العامّة لا يرسم صورة ورديّة لامعة على الدّوام؛ فالصّحافة ليست مجرّد كتابة، فهي استهلاك للوقت والجهد العصبيّ، وأيضًا اشتباك مع قضايا عامّة، وقد تجلب المشاكل والتّهديدات، كما أنّ المشغل الصحفي يستوجب نوعًا خاصًّا من الرّصد والمتابعة، لا علاقة وثيقة له بمشغل الأديب والرّوائيّ ونوعيّة الحاجات الّتي يرصدها أو يسعى لالتقاطها.
إنّ الصّحفيّ الجيّد والأديب الجيّد، على وفق تجربتي الخاصّة، لا يمكن أن ينموا معًا، ولا بدّ لأحدهما أن يعتاش على الآخر ويقهره ويجعله خادمًا ذليلًا له.
ولأن شخصيّتي بصفتي أديبًا وفنّانًا قد تحدّدت بزمن طويل قبل شخصيّتي بصفتي صحفيًّا، ولأنّني أقرب إلى الأدب منّي إلى الصّحافة، فقد كنتُ أتحيّن الفرص دائمًا للتملّص من الصّحافة لصالح الأدب. ولذلك؛ كان من الطّبيعي أنّ الفترات الّتي قضيتها في إنجاز أعمالي الرّوائيّة هي نفسها الفترات الّتي كنت أنقطع فيها نهائيًّا عن العمل الصّحفيّ.
لقد استقلتُ من عملي في قناة الحرّة مثلًا كي أذهب لإعداد المسوّدة الثّالثة والأخيرة من روايتي “فرانكشتاين في بغداد”. ما كان من الممكن أن أقوم بالعملين في وقت واحد، وكنتُ بحاجة إلى التّركيز الشّديد منعزلًا عن كلّ شيء على مدى ثمانية عشر شهرًا حتّى أكتب الرّواية وفق ما أحبّ وأرغب.
6 ـ
الّذي له تجربة مع الصّحافة ومع الأدب في الآن ذاته سيعرف أنّ هناك إمكانيّة للاعتراض على “واقعيّة” الصّحافة وادّعائها بأنّها “مرآة” للواقع، وأنّ الفاصل بين الأدب والصّحافة ليس مجرّد اعتماد الأوّل على التّخييل، ووجود عَقْد بين الكاتب والقارئ بأنّ ما يقرؤه هو اختلاق واختراع. بينما الثّاني، يزعم أنّه ينقل بحياد ما يجري في الواقع.
الرّاصد والمتأمّل سيرى أنّ في كلا الفنّين ثمّة انتقاء وانحيازًا وحذفًا وتلصيقًا وتبئيرًا وتمثّلًا نصّيًّا.
فالانتقاء هو جوهر التّأليف، ولا يمكن لك سوى أن تأخذ ما يناسب مقاصد التّأليف وتلفظ ما سواه. والانحياز سمة بشريّة، ولا يوجد نصّ من دون انحيازات، ويمكن القول: انحيازات ذات طابع أيديولوجيّ، فكريّ، عقائديّ، إلخ.
أمّا الحذف هنا فهو إبعاد عنصر موجود بشكل واضح في الصّورة من أجل الاختزال والتّكثيف، أو من أجل تعزيز الانحيازات؛ لأنّ العناصر المحذوفة تربك الصّورة الكاملة الّتي يتطلّبها الانحياز. كذلك الأمر مع التّلصيق حين تجمع في تجاور ما بين صورتين متباعدتين، ثمّ التبئير حين تجعل حدثًا ما أو شخصًا هو محور القصّة الّتي تكتبها، وتجعل غير ذلك ملحقًا أو في هامش البؤرة.
أمّا التمثّل النّصيّ فهو يفترض أنّ كلّ ما يدخل في اللّغة يخضع لطبيعتها، وبالتالي فإنّ أيّ نصّ لغويّ يدّعي تمثيل الواقع أو عكس صورته، هو في جوهره منطقة وسطى ما بين هذا الواقع المعكوس وما بين الطّبيعة الدّاخليّة للّغة، أو ما تسمح اللّغة بظهوره وما لا تسمح.
إنّ هذه السّمات الآتية من الطّابع الشّخصيّ تبقى حاضرة في الصّحافة مهما ادّعت من حياد وموضوعيّة، فضلًا عن كونها تفعل فعلها في لغة الصّحافة ذات التّوجّه الصّريح في الانحياز الفكريّ والعقائديّ، أو في رغبة الجهة المتحكّمة بالوسيلة الصّحفيّة أن توصل رسائل محدّدة إلى جمهور المتلقّين. وقد فصّل إدوارد سعيد في كتابه “الثّقافة والإمبرياليّة” هذه الانحيازات، الّتي هي مخترعات أدبيّة خاصّة، في توجيه الخطاب الّذي يدّعي أنّه محايد أو موضوعيّ في الصّحافة والبحوث ومخاطبات السّلطة.
برغم كلّ ذلك، فإنّ المتلقّي العامّ وهو يقلّب صحيفة حكوميّة أو يطالع قناة تلفزيونيّة أو يستمع لإذاعة، يعرف بأنّ ما يُعطى إليه هو واقع بنسبة كبيرة، ولكنّه يفهم أنّ هناك آليّات انتقاء وحذف وتبئير في كلّ ما يتلقّاه من مادّة إعلاميّة؛ لذا فهو يتحرّى مصادر صحفيّة أخرى من أجل التّأكّد والتّيقّن من قضيّة معيّنة.
إنّ تجاور وسائل إعلام عديدة في نقل حدث واحد بعينه، وحرّيّة المتلقّي في التّجوال بين مصادر إعلاميّة وصحفيّة متعدّدة، يحدّ من “اختلاقات” الصّحافة، ويخفّف من “أدبيّتها” وخياليّتها. وهكذا ينتعش السّرد الصّحفيّ بصفته فنًّا قائم الذّات.
7 ـ
مع الاكتساح الظّافر لعصر المعلوماتيّة والصّورة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ، فإنّ مواقع الصّحافة والأدب التّقليديّة تزحزحت بشكل واضح، وما عاد الفاعل اللّغويّ الّذي يمثّله الأديب أو الصّحفيّ يحتكر حقّ الفعل الكلامي، وصار المجتمع كلّه يمارس أشكالًا من الصّحافة والأدب والسّرد (ما دمتُ كلّ مرّة يذكّرني المحرّر بأنّه عليّ أن أركّز على السّرد)، وتوفّر المنتجات الشّعبيّة الجديدة إشباعًا لجمهور واسع، كان من المفترض أن يكون، كما أسلافه، مستهلكًا للصّحافة والأدب في صورتيهما المعروفتين.
يقضي الكثير من الأفراد، ممّن كان أمثالهم سابقًا جمهورًا متوقّعًا للصّحافة والأدب، ساعات طويلة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، ليتلقّوا آخر الأخبار والتّحديثات عمّا يجري في الحياة من حولهم، كما أنّهم يقرؤون ويسمعون ويشاهدون مقاطع فيديو تعرِض موادّ أدبيّة من الأدب الشّعبيّ أو الأدب النّخبويّ أو العالميّ.
إنّ موادّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ صارت جزءًا أساسيًّا ممّا تعرضه الصّحافة النّظاميّة من تلفزيون وصحافة ورقيّة وما إلى ذلك. خاصّةً تلك الموادّ الّتي تأتي من مناطق لا تدخل إليها الصّحافة، أو تمثّل مناطق خطر شديد عليها؛ كساحات الحروب والمواجهات أو التّظاهرات الشّعبيّة.
جوهر العمل الصّحفيّ ما زال هو ذاته، ولكنّ الوسائط تغيّرت، ومعها صار هناك صعود أكبر للشّفاهيّة والشّعبويّة أثّر أيضًا حتّى على الأدب، بل إنّ هناك تيّارًا أدبيًّا مجاورًا لصعود مواقع التّواصل الاجتماعي وحضورها في الحياة العامّة، إنّه تيّار لا ينال الاعتراف من قبل النّخبة الأدبيّة غالبًا، لكنّه يفرض نفسه في سوق الكتاب، وله جمهوره المرتحل من جمهور النّجوم في مواقع التّواصل الاجتماعيّ نفسها.
8 ـ
برأيي، إنّ التّطوّر والنّموّ المتسارع في عالم الوسائط، سيؤثّر أكثر وأكثر على كلٍّ من الصّحافة والأدب. من الواضح أنّ هذه الوسائط الجديدة تأخذ وظيفة الوسائط القديمة في الصّحافة والإعلام، أو على الأقلّ تُزاحمُها، ولكنّها كما أرى تفرض رهانات جديدة على الأدب الّذي يريد أن يبقى ضروريًّا لقارئه، هذا القارئ المخترق والفاعل داخل عالم الوسائط التّواصليّة الجديدة.
ربّما مِن أثر ذلك أن نرى الأدب يتخفّف من شروطه النّوعيّة لصالح الاقتراب من مزاج الوسائط الجديدة، مكرّرًا موقف الاستجابة ما بعد الحداثيّة الإيجابيّ من المتغيّرات حول الأدب، لا موقف الحداثة المتحفّظ والمرتاب من نهب فنون مجاورة لما كان من حصّة الأدب وحده سابقا.
معهد الجزيرة للإعلام