سعيد الحاجي
يفتح التحليل أمام الصحفي مداخل كثيرةً للفت انتباه الناس للحدث، وربما يكون مدخلًا لتحويل الحدث إلى قضية عبر البحث عن الأطراف المعنية به، والتأصيل لآرائها في النظريات العلمية والأطروحات الأكاديمية. لذلك، يبدو طبيعيًّا استدعاء خبراء وجامعيين للمساهمة في التحليل الصحفي، مكتوبًا، مرئيًّا أو مسموعًا، فيصبح للحدث صدى في الوسط الأكاديمي، ويصبح للرأي الأكاديمي تأثيرا في تأويل العموم لمجريات الحدث.
يقول المفكر والصحفي الفرنسي ريجيس دوبري بأن وسائل الإعلام تشكل آلية مهمة لكل سلطة معرفية، وتتيح إمكانية استثمار الرأسمال الجامعي في ظل مستوى الترويج والانتشار الذي تكفله وسائل من قبيل التلفزيون والراديو والجرائد. انطلاقًا مما قاله دوبري، يمكن أن يتحول التحليل الصحفي إلى سلطة على الحدث، إما أنه يضخمه أو يقلل من أهميته.
فيما يشبه وجود قوالب جاهزة للتحليل الصحفي، يمكن أحيانًا توقع نوع الضيوف الذين ستتم دعوتهم أو محاورتهم لتحليل الحدث وتداعياته وتفسير أسبابه، وتلعب السرعة دورًا مهمًّا في اعتماد هذه القوالب، ويكون الصحفي في ظل إكراه الوقت، مرغمًا على إعداد لائحة محللين وخبراء، مسبقًا، للاعتماد عليهم في تحليله الصحفي، وتكون نتيجة هذه السرعة أحيانًا حضور نفس المحللين للتعليق على أحداث كثيرة رغم تباين طبيعتها.
من جهة أخرى، يبدو وكأن هناك ربطًا ميكانيكيًا بين أحداث معينة وتخصصات أكاديمية محددة على مستوى التحليل. فعلى سبيل المثال، يستدعى لتحليل خبر نزاع حدودي بين دولتين باحث في العلاقات الدولية أو العلوم السياسية أو الميدان العسكري، ويتكفل بتحليل تداعيات ظاهرة تشغيل الأطفال في منطقة ما ناشط حقوقي أو باحث في السوسيولوجيا. كما أن رفض قانون معين من طرف جماعة محددة، سيجعل نجم غرفة الأخبار أو ملف العدد متخصصا في القانون. نحن إذن أمام نوع من التنميط الذي يطال التحليل الصحفي، فهناك حقول معرفية لا يلجأ الصحفي إلى المتخصصين فيها إلا عندما يتعلق الأمر بما يمكن وصفه بـ “الترف المعرفي” أو استكمال المعطيات المتعلقة بحدث معين، رغم أن هذه الحقول يمكن أن تقدم محددات أساسية في التحليل الصحفي وتفسير مجريات بعض الأحداث، ويمكن الحديث في هذا الباب عن المعرفة التاريخية وعلاقتها بالتحليل الصحفي.
المعرفة التاريخية في التحليل الصحفي.. النموذج الفرنسي
في فرنسا، يحظى المؤرخون بمكانة اجتماعية كبيرة مقارنة مع إنجلترا على سبيل المثال. معظم المؤرخين الفرنسيين الكبار لديهم صيت واسع في المجتمع الفرنسي، لذلك، لم يكن غريبًا اختراقهم مبكرًا مجال الإعلام. بدأ ذلك منذ ستينات القرن الماضي عبر دخول إيمانويل لوروا لا دوري غمار الكتابة في جريدة “لوموند”. لاحظ هذا المؤرخ بأن العديد من المتخصصين في حقول أخرى يستثمرون المعرفة التاريخية، لذلك تكونت لديه قناعة مبكرة بضرورة استثمار هذه المعرفة في التحليل من طرف المؤرخ طالما أنه هو من ينتجها، بدل أن يستثمرها آخرون ويتصدرون عبرها واجهات منابر الإعلام،. إيمانويل لوروا لديه مقولة شهيرة في هذا الصدد: “المؤرخ مثل المنجمي يغوص عميقًا في الأرض ليُخرج مادةً يستغلها علماءٌ آخرون، من سوسيولوجيين واقتصاديين”. كما فتحت صحف فرنسية أخرى، مثل “نوفيل أبسرفاتور” و”لو فيغارو” أبوابها لمؤرخين مثل فرانسوا فورييه وجاك جوليارد وأندريه بورغيير ومونا أوزوف وبيير نورا ودنيس ريشييه وبيير شوني وغيرهم، حيث قدموا بمساهماتهم الصحفية إضافات مهمة، كشفت عن حب الفرنسيين للمعرفة التاريخية، وقد كتب المؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس في كتابه “التاريخ المفتت”: “يبدو -الفرنسيون- جمهورًا متزايدًا متعطشًا لمعرفة ماضيه، يتدافع الناس للاستماع للخطاب التاريخي، وتستقبل شاشات التلفزة واستوديوهات الإذاعة باحثين كانوا في السابق مغمورين مع جهدهم الأرشيفي ومنحصرين في حلقة ضيقة من الجامعيين. أثناء برنامج السهرات الانتخابية، يقدم رينيه ريمون إيضاحات المؤرخ، فيما عين جورج دوبي رئيسا للقناة السابعة التلفزية الفرنسية، كما لمع بعض المؤرخين في التلفزيون الفرنسي مثل المؤرخ آلان ديكو. لقد اقتحمت جميع وسائل الإعلام والاتصال حقل المؤرخ، وهي تستجيب إلى تعطش حقيقي للتاريخ… إن الرجوع إلى التاريخ في فرنسا موقف عام”.
عند العودة إلى البرامج التحليلية للانتخابات في البلدان العربية، قطعًا لن تجد مؤرخًا قد وجهت إليه الدعوة للمساهمة في النقاش، لأن الأمر بكل بساطة، في نظر الصحفي، يبدو بعيدًا عن اهتمامات المؤرخ ولا يمكنه تقديم إضافة تذكر، على الرغم من أن البنية المجتمعية في البلدان العربية بشكل عام، هي بنية تخضع فيها شبكة العلاقات الاجتماعية لنظام لا يمكن تفسيره سوى بالتاريخ. هل يمكن مناقشة اتجاهات الناخبين في المناطق القبلية دون استحضار تاريخ العائلات النافذة وتأثيرها على الناس في محطات مختلفة؟ لن يقدم المتخصصون في القانون أو علم السياسة إجابة واضحة في هذا الصدد، ولن يتجاوزوا التفسير التقني لنتائج الاقتراع وقد يبعدهم منطلق تحليلهم عن تخمينات قريبة من الصواب بخصوص نتائج التصويت.
في بعض الصحف العربية على وجه الخصوص، وكنوع من تقديم الجديد خلال مواسم معينة (فصل الصيف، شهر رمضان… إلخ)، يتم تخصيص حيز معين تحت مسميات مختلفة (فسحة الصيف، استراحة رمضان… إلخ)، لمواد مرتبطة بالتاريخ، سواء تعلق الأمر بتاريخ الدول أو الأشخاص أو المجموعات. ربط التاريخ بالاستراحة يحيل على عدم تقدير لأهميته وما يمكن أن يقدمه للصحفي في باقي المواد، إنه نوع من تجميد المعرفة التاريخية وركنها جانبًا حتى يتم استخدامها في إراحة القارئ، بعدما تكون المعرفة القانونية أو السياسية أو الاقتصادية قد أرهقت ذهنه بتحليل الأحداث وما يرتبط بها.
تجربة فرانسوا فورييه في الـ “نوفيل أوبسرفاتور“
فرانسوا فورييه، مؤرخ فرنسي من أشهر كتبه “الثورة الفرنسية”، كسر الصورة النمطية المرتبطة بالمؤرخ وخرق القاعدة المقدسة للمسافة الزمنية التي يفترض أن يحترمها، وامتلك جرأة كبيرة للتعليق بشكل منتظم على الأخبار السياسية المحلية والدولية في مجلة أسبوعية يسارية، وقام فيها بدور المعلق الفضولي والحيوي على قضايا وأحداث اخترقت المشهدين السياسي والثقافي محليًا ودوليًا. من أهم مميزات فورييه إدراكه لمستويات التقاطع بين المادة الخبرية وصنعة المؤرخ، وكان على يقين بأن فهم الأحداث اليومية يستدعي إضاءة إضافية وأسئلة غميسة من لدن المؤرخ.
جاك جوليار Jacques Julliard، مؤرخ وصحفي فرنسي مخضرم، رافق فرانسوا فورييه في رحلته الصحفية بجريدة “نوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية الشهيرة Nouvel Observateur، والتحق بعد ذلك بمجلة “ماريان” ثم صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية. تمثل المقالات التي يحررها، نموذجا لتوظيف المعرفة التاريخية في التحليل الصحفي.
في مقال له بعنوان: “المنطق الذي لم يستوعبه الأمريكيون بعد”، ينتقد جوليارد طريقة تدخل الولايات المتحدة في العراق، وإعلانها إصرارها على التدخل سواء وافقت الأمم المتحدة أم لا. يعمد جوليارد إلى تحليل سلوك الولايات المتحدة ومواقفها في القضايا الدولية، ويقف على سوابقها في تجاوز الهيئات الأممية وتناقضاتها على هذا المستوى، عبر التذكير بأن الولايات المتحدة التي صنعت القانون الدولي من خلال مبادئ ويلسون الأربعة عشر في مؤتمر فرساي سنة 1919، والتي بموجبها تم تأسيس عصبة الأمم، هي نفسها التي أعلنت رفقة بريطانيا حل العصبة وتأسيس الأمم المتحدة سنة 1945. الولايات المتحدة هي الدولة نفسها التي تستخف بقرار الهيئة الأممية، وتشن في نفس الوقت حربًا على دولة أخرى بمبرر دفعها إلى احترام قرارات تلك الهيئة! هي إذن زاوية تحليل استحضر فيها جوليارد المعرفة التاريخية لإبراز التناقض القائم في سلوك الولايات المتحدة، ونكاد نجزم بأن زاوية التحليل هذه قد لا تتاح في التحليل الصحفي إذا لم تتوفر المعرفة التاريخية لدى المحلل.
وفي مقال آخر على جريدة “لوفيغارو” بتاريخ يونيو/حزيران 2019، عنون جوليارد مقاله بسؤال: “لماذا لا يحب المثقفون الحرية؟” يحاول جوليارد أن يكشف انحياز بعض المثقفين للديكتاتوريات في مجموعة من البلدان حاليًا، باحثًا عن أصل هذا الانحياز في انبهار المثقفين بالأنظمة الشمولية في القرن العشرين. ويذهب إلى أنه إذا كان مثقفو القرن الثامن عشر مثل مونتسكيو وروسو وتوكفيل قد وقفوا صفًا واحدًا ضد كل أشكال الديكتاتورية، فإن ظاهرة خدمة المثقفين للأنظمة الديكتاتورية ظهرت في القرن العشرين بعدما أصبحوا منذ الحرب العالمية الأولى يُنظّرون للفاشية والشيوعية والنازية ويتقاسمون الوجه المشترك للاستبداد. من زاوية التاريخ والاستحضار الدائم للمعرفة التاريخية، يبصم جوليارد على حضور متميز في التحليل الصحفي.
وفي العدد 1080 من مجلة “ماريان” الصادر في خريف 2017، اختار جوليارد أن يتفاعل مع وسم على تويتر بعنوان #Balanceetonproc مناهض للتحرش الجنسي، وضعته فرنسية مقيمة في نيويورك واسمها ساندرا مولر، فكتب مقالا تحت عنوان “هل يجب أن نشجب؟” بعمق فكري لا يخلو من إضاءات تاريخية.
مارك بلوك: الحرب العالمية الثانية أو الهزيمة الغريبة
عندما انهزمت فرنسا أمام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، انبرى المحللون العسكريون والسياسيون لتفسير الهزيمة، وأبدعوا في وصف العتاد العسكري وخطوط المواجهة والنقط الحاسمة، فيما كان السياسيون يبحثون في ثنايا خطب زعماء الدولتين عن الأسباب الكامنة وراء الهزيمة من جهة والنصر من جهة أخرى.
كان المؤرخ الفرنسي مارك بلوك خلال الحربين العالميتين جنديا في صفوف الجيش الفرنسي، وتوفرت فيه الشروط الكاملة للتعليق على الهزيمة وتحليل مجرياتها انطلاقًا من موقعه الميداني في الحرب. لكن عكس ذلك، اختار زاوية أخرى، ففي كتابه الهزيمة الغريبة “L’étrange défaite” كان فهم الأسباب الحقيقية للهزيمة حسب بلوك، مرتبطًا ومشروطًا بتجاوز الظرفي إلى البنيوي، والبحث في الأسباب السياسية والثقافية والاقتصادية التي لا يمكن استيعاب مفعولها، إلا إذا تم النظر إليها على مستوى الأمد المتوسط والطويل. فالأمر يتعلق باختلالات بنية ممتدة في الزمن، وليس بمجرد حدث مواجهة عسكرية انتهت بهزيمة طرف وانتصار آخر. لم يقتنع مارك بلوك بالأجوبة السهلة والجاهزة عن أسباب الهزيمة وربطها بما هو عسكري فقط رغم أهميته، إذ أبان بلوك في كتابه عن قدرة هائلة على تأطير الهزيمة بين الثابت والمتغير في تاريخ فرنسا، وأظهر تملكًا قويًا للفهم السوسيولوجي والسيكولوجي، وهو نموذج يمكن استثماره في التحليل الصحفي لبعض الصراعات العسكرية في وقتنا الراهن.
هناك فوارق واضحة بين الصحافة الغربية والصحافة العربية على مستوى توظيف المعرفة التاريخية في التحليل الصحفي، قد يكون لطبيعة تكوين القارئ والمتلقي دور في ذلك. توظيف المعرفة التاريخية في التحليل الصحفي بشكل عام يحتاج إلى وجود حد أدنى من الوعي التاريخي لدى الشعوب، خصوصًا أن الاستعانة بالمعرفة التاريخية يصل بالتحليل إلى مستوى معين من العمق. من جهة أخرى، قد يساهم الصحفي في وجود هذا الفرق، عبر التصنيف السهل للمواضيع من الناحية المعرفية، وعدم الاجتهاد في البحث عن زوايا أخرى من التحليل الصحفي للأحداث، ممّا يضيّع ربما إضاءات أفضل على الحدث.
معهد الجزيرة للإعلام