ميس قات
يبدو عالم الصحافة تنافسياً أكثر من أي وقت مضى. تشعر بالحاجة لأن تكون قرشاً أو صقراً محلقاً في السماء لتستمر، لكن ذلك ليس دقيقاً تماماً، خاصة عندما تكون صحفياً مجتهداً، فالكثير من الصحفيين المستقلين الذين التقيتهم في العالم العربي وحتى في أوروبا يفضلون العمل المستقل على التقيد بغرف أخبار ضمن ظروف عمل ضاغطة.
يختار الصحفيون/ات العمل الحر “فري لانسر” في طور البحث عن مؤسسة إعلامية تحتضنهم ليعملوا تحت مظلتها وبالتالي يحصلوا على راتب شهري ثابت، أو عندما يقررون أن يعملوا بأكبر قدر من الحرية وبدون سيطرة.
“الاستقالات الكبرى” هو مصطلح تمّ تداوله كثيراً خلال الأشهر الماضية، ويشير إلى الأعداد الهائلة من الموظفين الذين قرروا ترك وظائفهم وانتقلوا إلى عالم العمل الحر. وفق تقرير “الاستعداد لأزمة الدوران الوظيفي” الذي أجرته شركة مايكروسوفت، فإنّ 41 بالمئة من الموظفين فكروا بتغيير مهنهم أو تركها خلال العام 2021.
بالنسبة للصحفيين، انخفضت وظائف غرف الأخبار بنسبة 26% منذ العام 2008، ونما سوق الصحفيين المستقلين بنسبة 34% في الولايات المتحدة خلال عام 2021 وفق تقرير “شركاء أم. بي. و”. وأصبح العديد من الصحفيين الذين أعرفهم مستقلين بسبب تسريحهم وانخفاض الميزانيات، أو بسبب بيئات غرف الأخبار التي تدفعهم للخروج من مؤسساتهم الإعلامية، لا سيما الرواتب غير العادلة التي يتقاضونها وعدم وجود عقود أو حقوق وظيفية بحجة “العمل غير الربحي”.
فهل يستطيع الصحفي العمل كمؤسسة إعلامية؟ وهل يستطيع شق طريقه بنفسه؟ وما هي أبرز الممارسات الفعالة لاستدامة الدخل؟
لا تضع السمك في سلة واحدة
علينا أن نفكر بأنّ التحديات التي تواجهها المؤسسات الإعلامية تشبه تحدياتنا كصحفيين مستقلين أيضاً، لذلك فإن أول تحدّ يجب أخذه بعين الاعتبار هو الاستدامة المالية. وفي سبيل تحقيق استقرار مالي يتوجب عليك أن تفكر بميزانيتك السنوية، لا الشهرية كما يفكر الموظفون التقليديون. بعض الأشهر قد تكون مليئة بالعمل والمشاريع، وبعضها أقل نشاطاً. حدّد المقابل المالي ليوم عملك الواحد، ووزع دخلك على مدار العام بدل صرف الأموال التي تحصل عليها بشكل عشوائي. وحاول أن تملأ جدول “ساعات العمل” بشكل أسبوعي بحيث تحسب ساعات دوامك بشكل تقريبي، وتتمكن من مسح المشاريع التي تعمل عليها، وتقوم في نهاية العام بحساب دخلك بدقة وتجري مراجعة نشاطاتك ووضعك المالي.
حاول أن تجد مشروعاً طويل الأمد، ويحقق لك دخلاً مستقراً ولو كان صغيراً، بحيث تستطيع الاستناد عليه مالياً. قد تستفيد من المنصات الرقمية مثل صنّاع المحتوى الأفراد في العالم، وتُطلق قناتك على يوتيوب أو موقعًا لرسالتك الاخبارية الاسبوعية، وقد ترغب بالحصول على عمل صغير في قطاع التواصل أو التسويق. ولا تخجل من التفاوض عندما لا يتناسب المقابل المالي مع الحد المناسب لدخلك اليومي.
طوّر مهاراتك المختلفة كي تكون قادراً على إدارة مشاريعك بنفسك بدون تدخلات من تقنيين ومصمّمين قدر المستطاع. المهارات المختلفة مطلوبة من الصحفيين العاملين في المؤسسات الاعلامية أيضاً، ولكن تسلح الصحفي المستقل بالمعارف يساعده بشكل استثنائي على التقدم والتطور وتوفير الكثير من الأموال. وتتعلّق المهارات الرقمية التي عليك تعلمها باستعمال خدمات الملفات السحابية، مهارات تحرير الصوت والصورة والفيديو بشكل بسيط، أدوات تحليل البيانات البسيطة، بالإضافة لمهارات كتابة الفرضيات والمشاريع والتقارير التي قد تلزمك عندما تعمل مع مؤسسات دولية. وتعتبر إجادة اللغة الانجليزية ميزة كبرى تؤمن فرصاً مضاعفة لأي شخص يعمل في قطاع الصحافة والإعلام.
التحالفات المهنية
نسمع بعض الزملاء الذين يتذمرون من الواسطات وانعدام تكافؤ الفرص، وحصول بعض الأشخاص على منح متكررة في حين يكون من الصعب على آخرين إحراز التقدم. للأسف في عالم الصحافة لا يكفي أن تكون صحفياً كفؤاً فحسب، فالذكاء العاطفي وامتلاك أدوات التواصل الصحيحة يلعبان دوراً هاماً جداً في نجاحك إلى جانب اجتهادك المهني.
أعتقد أن كل مشروع ننجزه بمهنية عالية يفتح أبواباً لمشاريع وفرص أخرى تساهم في تراكم السمعة المهنية الممتازة. الموارد البشرية الجيدة لها قيمة عليا بالنسبة لمدراء المشاريع، لذلك يميل هؤلاء لإعادة تجربة العمل مع الصحفيين المستقلين الذين أبلوا بلاء حسناً خلال عملهم، ولتقديم فرص أكبر لهم.
كما يساعد حسن التعامل مع الزملاء وتقديم الدعم لهم سواء كانوا في مناصب عليا، أو في مقتبل عملهم المهني في توسيع دائرة العلاقات المهنية. كثيراً ما يحصل الصحفيون والمدربون على فرص ممتازة عن طريق طلاب أو صحفيين مبتدئين عملوا معهم على مشاريع أو تدريبات في أوقات سابقة، ويميل بعض الأشخاص للتعامل باحترام مع الزملاء ذوي المناصب العالية، ويتعاملون بطرق مختلفة مع المبتدئين، وهذا خطأ كبير قد يودي بالسمعة المهنية.
ومن المهم البحث عن موجّه صحفي، قد يكون مديراً/ ة سابقاً، أو أستاذك الجامعي، أو صحفياً/ةً أعجبت بأعماله/ها وتواصلت معه/ها. هناك الكثير من الأشخاص الذين يمتلكون الخبرة الكبيرة ويرغبون في فتح أبواب للصحفيين الشباب.
هل تبحث عن الفرص؟ تقتنصها؟ أم تنتظرها؟
على الصحفي المستقل أن يبقي عينه على الفرص المتاحة، وأن يتابع المواقع الهامة التي تنشر الفرص والمشاريع المختلفة، وأن يشترك في النشرات الدورية للمواقع التي تنشر أموراً مهمة من هذا القبيل مثل نشرة شبكة الصحفيين الدوليين. كما يمكن تفعيل التنبيهات في بعض المواقع المهمة ليصلكم كل مقال يتم نشره في الحال والتواصل مع الزملاء في منتديات وتجمعات افتراضية للصحفيين مثل منتدى باميلا هاورد لتغطية الأزمات أو الشبكة العربية للصحافة العلمية، أو مجموعة شبكة أريج للصحافة الاستقصائية على فيسبوك.
من المهم أن تفكّر جيداً قبل التقدم إلى المشروع أو المنحة المنشورة، وأن تقدم طلبك بشكل معتنى به وبنفس الوقت لا تؤجل ذلك لآخر يوم من أيام التقديم، ففي كثير من الأحيان يبدأ مدراء المشاريع أو المسؤولون عن المنح بفتح طلبات التقديم عند وصولها، وقد يتم اختيار مشروعك أو طلبك قبل غيرك، كما أنّ بعض المؤسسات تفتح باب التقدم وتغلقه فور حصولها على الطلب الملائم.
في ذات السياق، يمكن أن تبادر دائماً، فلا تنتظر المؤسسات ووسائل الإعلام لتنشر طلبات التوظيف أو المشاريع، إنما حاول أن تبادر بنفسك بأفكار جديدة ومشاريع قد تكون مغرية لتنفيذها. وعندما ترسل لأحد صانعي القرار في مؤسسة ما، حاول أن تكون واضحاً وترسل ملفاً مكتوباً يتضمّن تعريفًا قصيرًا ومختصرًا قبل أن تطلب اجتماعاً أو مكالمة هاتفية، فالمدراء أو المحررون غالباً ما يكونون مضغوطين جداً بالاجتماعات والتواصلات اليومية، وإرسال التفاصيل المختصرة قد يمنحك فرصة كبيرة بقبول مشروعك، والبدء بالتواصل بشكل أسرع.
وقد تكون المشاريع التعاونية فرصة ممتازة لبدء عمل مشترك ذي أبواب مختلفة للدعم والانتشار، كما أنّ التحقيقات العابرة للحدود هي واحدة من أهم أشكال التعاون الصحفي الفعال. يمكنك التواصل والتشبيك مع الصحفيين/ات في بلدان أخرى، والتحاور حول قضايا ذات أبعاد مشتركة في البلدان المختلفة، وعقد التحالفات تمهيداً لبناء تحقيق مشترك، أو التقدم بفرضية مشتركة إلى إحدى المؤسسات التي تعنى بهذا النوع من التحقيقات الكبرى، كشبكة أريج للصحافة الاستقصائية، أو مركز مكافحة الفساد المالي والجريمة المنظمة والشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية.
ويقدّم صندوق روري بيك المنح للصحفيين المستقلين لتغطية تكاليف التنقلات والإقامة المؤقتة، إضافةً إلى أدوات السلامة، مثل السترات والخوذات الواقية من الرصاص، وذلك من خلال صندوق الأزمات التابع له.
سوّق نفسك بالشكل الصحيح
تماماً كما تحتاج المؤسسات الإعلامية لمسؤولي تسويق وترويج ومبيعات، يلزم الصحفي المستقل أن يسوّق لنفسه ولمهاراته بالشكل الصحيح. ولكن ذلك لا يحصل ببساطة، فهناك ممارسات نقوم بها قد ترسم انطباعاً خاطئاً لدى الآخرين.
مفتاح التسويق الصحيح للذات هو أن نكون صادقين تماماً مع الآخرين، أن نكون أنفسنا، نتحدث عن إيجابياتنا ونبرز مهاراتنا ونحاول نشرها، ولا نهمل نشر نجاحاتنا مع عدم المبالغة في ذلك.
اختر منصات التواصل الاجتماعي الملائمة لبلدك، وللفئة التي تستهدفها في عملك، فمنصة لينكد إن ممتازة للتسويق المهني الذاتي، وأدرجت خيارات جديدة لصناع المحتوى الإعلامي، كنشر المقالات وإرسال النشرات الأسبوعية، ولكنها غير مستخدمة بكثرة في بعض البلدان العربية، لذلك من الأفضل موازنتها مع منصة فيسبوك على سبيل المثال، التي ينشط عليها عدد كبير من الصحفيين العرب. ويمكن أن تبدأ موقعك الشخصي على شبكة الانترنت، وتفتح صفحتك الشخصية لتصبح عامة وتنشر عليها أعمالك ومهاراتك، إلى جانب حسابات تيك توك ويوتيوب التي يستخدمها الكثير من الصحفيين اليوم لتسويق أنفسهم، والمحتوى الذي يعملون عليه، وللحصول على مقابل مالي في نفس الوقت.
ابقَ على تواصل مع الزملاء والأصدقاء، فالتواصل الإنساني يلعب دوراً كبيراً في بناء علاقاتك الجيدة بالناس. أرسل مقالاتك وأعمالك لهم من خلال الرسائل الخاصة واطلب آراءهم، استمع للآراء حتى لو كان سلبيّة وفكر بها لتحسّن عملك باستمرار.
يعتبر العمل التطوعي من أهم مفاتيح بناء السمعة الطيبة، لا تبخل بالعلم والمعرفة بل قدّم ما تعرفه للآخرين عندما يكون لديك الوقت والطاقة لذلك. ومن الأفضل دائماً أن تنظّم عملك التطوعي حتى لو كان صغيراً جداً. يمكن أن تقدّم العون لصحفي مبتدئ يعاني من صعوبات في صياغة تحقيقه، أو أن تعرض تدقيق نص لشخص آخر، كما يمكن التطوع ضمن مبادرات ذات أهداف سامية تطابق أهدافك ومبادئك. طبعاً ذلك قد يكون إلى جانب تنظيم تدريبات خاصة للصحفيين المبتدئين في مناطق النزاع على وجه الخصوص، والذين يعانون من ضعف الوصول إلى المعلومات والخبرات بالشكل الصحيح.
احذر الاحتراق
في غمرة كل هذا التخطيط والعمل، يجب أن نتذكر دائماً أننا أفراد، وبأنّ التخطيط بعقلية المؤسسة لا يعني أن ننتج كمؤسسة على الإطلاق. فالعمل الجماعي ما يزال مهماً حتى عندما نعمل كصحفيين مستقلين، ولا يمكنك الاستغناء عن زملائك ومعارفهم وطاقاتهم.
احذر من الاحتراق المهني، فالكثير من الصحفيين المستقلين يقعون في دوامة المشاريع المتعددة والمهام الكثيرة الواقعة على عاتقهم، إلى جانب الضغط المادي الذي يفتقدونه بعد خروجهم من فكرة أمان “الراتب الثابت”. وهنا على الصحفيين المستقلين إعطاء أنفسهم وعائلاتهم وقتاً خاصاً، إلقاء الهاتف جانباً والابتعاد عن السوشيال ميديا والتمتع مع الأصدقاء في أوقات العطلات والأعياد والأمسيات من أجل الحفاظ على الطاقة السليمة والجسد الصحيّ وللتمكن من متابعة العمل والاستدامة.
IJNet