زينب ترحيني
تُشير لي بيدها نحو أشرطة الكاسيت قائلةً: “مش هيدا يا ستّي. إللي وراه”. أُقلّبها بخفّة بين أصابعي، ومع عبور شريط جديد، ألتفت نحوها لملاحظة إيماءات وجهها. كانت جدّتي شغوفة بالتلاوات القرآنية، حافظة للكثير منها وصاحبة صوت بديع. أحببتُ، قبل رحيلها، قضاء الوقت معها. لم تكن كثيرة الكلام، ولكن متى ما بدأت الحديث لفّ المكان سحرٌ هائل. في نهاية يوم طويل، كنتُ أساعدها على التمدّد فوق السرير بينما أرمي بالقليل من جسدي إلى جانبها، تاركةً الباقي منه لتحكّم أسرع بالراديو. نستمع معا إلى القصص والتلاوات القرآنية. علّمتني الإنصات وحسن الاستماع، فصار القرآن أجمل، وصارت تحكي لي قصصاً بديعة عن حبّها الأبدي للتلاوة.
عرفت هذه المرأة كيف تروي، بارعة وممتلئة شغفًا، قبل موتها بأشهر، وكانت قد بدأت تفقد ذاكرتها تدريجيا. سألتها من أين أتت بكلّ تلك القصص التي سردت لنا؟
أشارت لي بيدها إلى جبل ممتدّ أمام شرفة منزل أهلي. كانت أمّي جالسة بيننا.
“الدني كبيرة يا ستّي. تفرّجي والقصص بتيجي”.
المشاهدات.. بين المُخزّن والمُكثّف
الميدان، بالنسبة للصحفي هو مفهوم دائم أبديّ مستمرّ لا يرتبط بساعات عمل أو بمكان جغرافيّ مُحدّد. يعيش الصحفي في حالة من التخزين الدائمة، لمشاهد ومحادثات قد تبدو عاديّة أو روتينيّة في كثير من الأحيان. كلّ ما يجري من حوله حدث كامل، أو مشروع موضوع صحفي. بحثٌ مستمرّ عن قصّة مقبلة، أو تخزين لمشاهد ستسند يومًا ما قصّة صحفية لا ارتباط مباشر بينها وبين الموضوع الأصلي في أغلب الأحيان. يصير الأمر، مع الوقت، فعلاً أوتوماتيكيًّا لا واعيًا. أمّا الفارق بين الميدان الآني وذاك الدائم، فهو التكثيف.
لهذا تبدأ عمليّة بناء القصّة الصحفية قبل الذهاب/الوصول إلى الميدان، من اللحظة التي يتّخذ فيها الصحفي قراره بالعمل على موضوعه. يبدأ بناءه العشوائيّ لقصته، مُستعينًا بكل ما تيسّر له من مشاهدات وأحداث مُخزّنة. مخزن المشاهدات العبثيّة هذا كنز، لا بُدّ من تقليبه للخروج بشيء استثنائيّ. أمّا شكل توظيفها فسيأتي في مراحل لاحقة.
في مرحلة ما بعد تحديد الموضوع الصحفي، فلا محدوديّة جغرافية للمشاهدات. كل ما يسبق وما يلي الوصول إلى نقطة الحدث قد يكون جزءاً من الموضوع. سائق التاكسي وسيارته، المخبز في أول الحيّ أو حتى النسوة اللواتي ينشرن الغسيل. يلتقط الصحفي كلّ ما يدور من حوله، يُراقب ويُدوّن بشكل مُكثّف. تفاصيل لا بُدّ منها لبناء أي سرديّة. السؤال المحوريّ أساسي، ولكنه لا يكفي لصنع سرديّة صحفية متينة قابلة للقراءة أو المشاهدة. قد يبدو في مرحلة ما أنّ الكثير من المشاهدات، غير ذات فائدة أو في غير محلّها. تبدو كأشياء عادية يُمكننا رصدها يوميًّا. لا بأس، لأنه سيخضع لاحقا للترتيب وتاليًا للإقصاء. في مرحلة الكتابة، ستجتمع المشاهدات بتلقائية وتحذف تلك غير المفيدة ذاتها بذاتها. ولكن كيف يوظّف الصحفي مشاهداته؟ وكيف يتمكّن من الربط بين أشياء قد تبدو متباعدة؟ كيف ستكون هذه الرحلة التي سينتهي بها المطاف في عدد محدود من الكلمات؟
من يسرد القصة؟
المشاهدات هي بوصلة الوصول إلى صانعي القصّة الصحفية، أبطالها ومجموع الساردين لها. يأتي الإنصات مُرافقًا لرحلة صنع القصة الصحفية. الإنصات إلى الصمت (أو ملاحظته)، تمامًا كما الاستماع إلى القصص التي ستُروى على طول الطريق. وهنا يأتي الطريق بمعناه الذي يقطعه الصحفي وصولاً إلى/وفي الميدان. أبطال القصّة، ليسوا بالضرورة شخصيات الحدث المباشرين. قد تكون القصة على الضفاف، لهذا يجب تفادي الوقوع في فخّ “محوريّة الأبطال”، فالحدث قد يكون هناك حيث نظنّ ألاّ وجود له.
السرد الصحفي رحلة من المفاجآت، صندوق فرجة، لا سبيل إلى اكتشافه إلاّ بعينٍ وأذن لا تغيبان. شخصيات السردية الصحفية كُثر، ومع هؤلاء سيأخذ السؤال المحوري أشكالا كثيرة. مع كلّ تحوّل في السؤال سيُعاد توزيع أبطال الميدان، ما بين كومبارس وشخصيات أساسية وأخرى سنعتذر لها أثناء الكتابة عبر الاستبعاد. وخلال هذه المرحلة أيضًا، سيتمّ اكتشاف الشخصيات التي يحتاج الصحفي إلى محاورتها والتعمّق في سؤالها. يسقط كثيرون مع فعل الاستماع، بينما يطفو كثيرون على السطح وتلحّ على الصحفي الحاجة إلى محاورتهم. تتضمّن المقابلات بدورها فعل الاستماع، ولكنها تحتاج في الوقت ذاته إلى أرضيّة أكثر صلابة وثباتًا من مجرّد حديث عشوائي. تحتاج المقابلة إلى مركزيّة، يدور حولها الصحفي بأسئلته ويجرّ معها محاوريه إلى الدوران في لبّ ما يبحث عنه.. تأتي المقابلات لملء الفراغات أو تقديم إجابات واضحة ومباشرة عن أسئلة الصحفي، وكذلك لتُساعد على الربط بين حلقات هذه الأحجية/السردية، التي تقوم على كل ما سبق. ولكن كيف تتركّب عناصر هذه السردية؟ كيف يقوم الصحفي بجمع أوصالها ومن أين يبدأ بالبحث؟ وكيف يعرف أين يتوقّف؟
يحتاج كلّ سرد صحفيّ إلى خروجٍ عن الآنيّة. زيارة الأرشيف، قبل وبعد العودة من الميدان، وجهة ضرورية. معرفة الصحفي لميدانه وفهمه والتعمّق في قراءته، سيجعل المشاهدات والشخصيات أكثر فعاليّة ودقة، كما أنّ الأرشيف قد يلعب دوراً مهما في عملية الكتابة. إذا كان الصحفي محظوظاً، سيقع في الأرشيف على خبر سيصير مدخلاً لقصّته الصحفية لأن استحضاره حرفة سردٍ قائمة بذاتها، ودعامةٌ متينة لأيّ سرد صحفي.
بعد زيارة الأرشيف، والاكتفاء من الميدان، كيف يسرد الصحفي قصّته؟ كيف يفرز معطياته بين الأهمّ والأكثر أهميّة؟ ربّما يجب، بدايةً، التسليم بأنّ كُلّ قصّة صحفية تنطلق من الأنا. لا يُمكن تغييب الذات، ومن المهمّ تعلّم ترويضها لتسند أي نصّ بذكاء وخفّة. تتفاوت درجات حضور الأنا، وأشكالها، ولكن الثابت الوحيد أنّها هُنا ومن حولها يحدث كلّ شيء. الأنا محوريّة في صناعة القصّة الصحفية. وهنا لا ينحصر الحديث عن “أنا” الصحفي، بل يشمل أنواع أخرى من “الأنا” تتصارع (أو تجتمع) على صناعة القصة. وحده وعي الصحفي بحضورها، قادرٌ على لجمها ورسم حدود تدخّلها.
يتوسّط الصحفي تفاصيل قصّته. تكمن الموضوعية في شكل تعامله مع الأنا، فهو في النهاية جسر عبور للسرديّة وليس الأرض التي تقوم عليها. هو من يختار أسئلته، وهو من يختار شخصيّاته ومشاهداته وهو من سيقوم بتركيب تلك السردية. لذلك، من الضروري اعتماد مجموعة من القواعد (لا تنازل عنها تحت أي ظرف) لتأمين نقل دقيق وواقعيّ لكل ما عاينه في الميدان لأن قرارا واحدا بإسقاط بعض المعطيات، ورفع بعضها كفيل بتشويه القصّة الأصلية. ومن أجل حماية السرد الصحفي من الغرق في جدل الموضوعية، يحتاج الصحفي إلى الإدراك التامّ بأن القصّة ليست رحلته إلى الميدان، بل هي الميدان نفسه.
الكتابة أو الغربلة
ما يحمله الصحفي في طريقه ذهابًا إلى الميدان، ليس بالضرورة هو ما سيرافقه في مرحلة الكتابة ذلك أن محاولة اكتشاف الميدان من بعيد لا تُعادل تجربة اكتشافه المباشرة والحيّة. ستسقط الأسئلة أو يُعاد تركيبها بمجرّد الاحتكاك بالحدث، ومن المُفيد أن يترك الصحفي نفسه للميدان، وألاّ يتمسّك بسرديته التي رسمها قبل وصوله من دون التخلّي عن ثوابت مركزيّة، تختلف من موضوع إلى آخر. ولكن الميدان، أو الاحتكاك المباشر بالقصة، قادرٌ على رسم الأسئلة الأكثر آنيّة وأهمية، وكذلك على خلق تراتبية خاصة، وبالتالي سيحتاج الصحفي إلى جمع أقصى ما يمكنه جمعه. هذه المعطيات ستمرّ عبر مرحلة من الغربلة تسبق أو ترافق الكتابة. بعد العودة من الميدان، سيحمل الصحفي معه كومة من مشاهدات ومقابلات وأحاديث عشوائية. لنقل شبه وضوح في الرأس بينما في الواقع وجودٌ لمواد كثيرة تحتاج الى المعالجة. هي إذن، أحجية، يحتاج الصحفي فيها الى اختيار ما يُمكن له أن يسرد مجموع ما رآه وسمعه ودوّنه. هي سردية صحفية، لا دليل وعظيّا أو إرشاديا فيها، بل تراكميّة وتكثيف يتيحان للقارئ فهمًا تلقائيًا ومُعمّقًا للقصة المُراد سردها.
حكت لي جدّتي مرارًا قصة رجل من ضيعتنا، قتله الاحتلال الإسرائيلي بدمٍ بارد بينما كان يتوجّه إلى حقله ذات صباح باكر. في كلّ مرة كانت تُعيد سرد القصة، كانت تُضيف إليها تفصيلاً صغيراً جديداً. في كلّ مرة، كنتُ أقول إنّ القصة الآن اكتملت: صراخ الزوجة، الدم الذي تناثر على وجهها وعلى أوراق التبغ، صراخ الزوجة الذي ملأ المكان، كلمات الجنود الإسرائيليين بعد تصفيته، توجّه أهالي الضيعة إلى المكان وغير ذلك. في كلّ مرة تفصيل، وفي كلّ مرة ظننت أنّي حصلتُ على كامل القصة. ماتت جدّتي، وإلى اليوم ما زالت أمي تُضيف أحداثًا على القصة ذاتها وتجعلها أكثر دراميّة ومأساويّة.
هكذا هي القصص. لا نهايات ولا حصر لها. تفاصيلٌ وتشعّبات وكلام وصور…
وحده الراوي قادرٌ على كتابة القصّة. وحده بمعطياته التي يملك، يعرف أين يبدأ وكيف ينتهي.
معهد الجزيرة للإعلام