أحمد شوقي العطار
في ظل الملاحقة وغياب الإمكانيات وباقي الضغوط التي تواجه الصحافة العربية، يمثل البودكاست بيئة رائعة للصحافة الاستقصائية. فإلى جانب تميزه بالتحرر من قيود النشر، وسرعة الوصول إليه، وسهولة تلقي محتواه، يتميز البودكاست الاستقصائي أيضًا بقلة تكلفة إنتاجه وسرعة إنجازه، مقارنة بالاستقصاء المكتوب أو المرئي.
ورغم نجاح العديد من تجارب البودكاست الاستقصائي بالغرب في جذب اهتمام الجمهور، لم يظهر حتى الآن تجربة عربية مماثلة. لذا، جمعت شبكة الصحفيين الدوليين أهم وأبرز نصائح الخبراء لإنتاج بودكاست استقصائي ناجح، ومؤثر. لعل أحدهم يقرر إطلاق صافرة البداية.
جمع المعلومات وإجراء المقابلات
هذا النوع من البودكاست يحتاج لصحفيين لديهم خلفية استقصائية، وخاضوا تجربة التحقق بالفعل، لأن أحد أهم عناصر البودكاست الاستقصائي هو البحث الدقيق، وهي عملية مألوفة بالنسبة لهم، إن لم ينطبق ذلك عليك، فابدأ أولا بدراسة أساسيات الاستقصاء. ويفضل أن تعمل في البداية على حل بعض الألغاز الصغيرة، قبل أن تنخرط في قضايا كبيرة ومتشعبة.
ليست كل التحقيقات تناسب الوسيط المسموع، إذا كانت القصة تعتمد بشكل رئيس على البيانات والأرقام والمعلومات المعقدة، فهي غير مناسبة للبودكاست إلى حد كبير. تأكد أن القصة التي تعمل عليها يمكن معالجتها صوتيا بشكل جيد، ويمكن استكشافها وتطويرها لتناسب البودكاست وجمهوره المستهدف. معظم منتجي البودكاست الاستقصائي يفضلون العمل على القصص المتعلقة بالجريمة، أو القصص الإنسانية.
لابد أن تكشف قصتك حقائق جديدة كانت خفية من قبل. إعادة تدوير قصة مكتوبة أو مرئية، حقائقها معروفة، إلى بودكاست استقصائي خطأ كبير. ويعرضك لفقدان جمهورك سريعا. ابحث عن الجديد، وادعم ذلك بالقرائن والأدلة والشهادات والوثائق، وفكر في طريقة مناسبة لسرد محتواها صوتيا بشكل يحقق المطلوب.
يجب أن تكون معتادا على ترك مسجلك (أو حتى هاتفك) على وضع التشغيل قبل أن تخرج لإجراء المقابلات أو زيارة بؤر الأحداث أو مكان الواقعة قيد التحقيق. قد تصادفك قرينة أو معلومة لا يمكن تعويضها مرة أخرى. راقب التفاصيل وكن يقظا وأنت في بؤرة الحدث أو في أماكن اللقاءات، هذا أمر حيوي لمحققي البودكاست.
أثناء التحقيق، فكر في أمرين. أولا: احصل على الجوانب المختلفة للقصة، ولا تنهي أي مقابلة قبل أن تجمع كل الأدلة والمعلومات الممكنة. ثانيا: لا تدفع القصة في مسار واحد فقط، اجمع كل الآراء، امنح الأشخاص الآخرين في البودكاست الفرصة لمشاركة وجهة نظرهم للرد على شيء ما؟ جانب الإنصاف مهم جدًا في البودكاست الاستقصائي.
الكتابة
بعد إجراء المقابلات وجمع المعلومات، تأتي مرحلة الكتابة، وهي من أهم مراحل تنفيذ البودكاست الاستقصائي. تحتاج إلى نص محكم قبل البدء في التسجيل. الكتابة الرصينة بإيجاز شديد وبأسلوب مناسب لكيفية تحدثك، هي ما ستؤدي إلى تميز قصتك الصوتية.
ما هو السؤال أو الأسئلة الرئيسة الذي تحاول قصتك الإجابة عنها؟ الأسئلة هي روح القصة وقلبها، والتركيز عليها يجذب الجمهور لسماع البودكاست. اطرح الأسئلة التي تعتقد أن المستمع سوف يسألها لنفسه ثم راوغهم للحصول على الإجابات. بدون فعل هذا مراراً وتكراراً، لن تثير اهتمام الجمهور.
المحتوى الجذاب مهم، لكن الإطار العام لابد أن يكون جذابا أيضا. من الضروري إضفاء الطابع الدرامي على القصة دون الانزلاق بعيدا عن الحقيقة. اصنع هيكل للقصة من شأنه أن يجعل أهداف الراوي واضحة.
حدد 3 عناصر أثناء كتابة الافتتاحية، شخصية وهدف وعقبة، ذلك سوف يجذب اهتمام جمهورك. على سبيل المثال، في افتتاحية إحدى حلقات البودكاست الاستقصائي الشهير “Serial” قررت الصحفية سارة كونيغ إعادة فتح التحقيق في جريمة قتل قديمة لـطالبة في المدرسة الثانوية من أجل البحث عن حقائق جديدة في القضية.
يجب أن تسرد قصتك من خلال الأشخاص، حدد شخصية أو أثنين لهما دور فعال في القصة لترويها من خلالهم. ذلك يساهم لحد كبير في اذابة تعقيدات القصة، ولا يترك المستمع مرتبكًا.
اصطحب جمهورك في رحلة أثناء السرد. وكن مستعدًا للتعمق في التحقيق والمشاركة فيه، قم بدور المحقق الذي يبحث عن المعلومة ويصل للحقائق، وينقلها بصوته للجمهور، ولا تكتف بدور المعلق أو الراوي – هذه اللمسة الشخصية ستجعل المستمعين يتواصلون حقًا مع ما تفعله.
التسجيل
لا تختلف مرحلة التسجيل في البودكاست الاستقصائي عن أي بودكاست آخر، لكن هناك بعض الملاحظات التي يجب مراعاتها أثناء تسجيل قصة استقصائية.
تحدث أثناء التسجيل بضمير المتكلم. ورغم أنه ليس شائعا في العمل الصحفي أن يكون المحقق جزءًا من القصة أو أن يتحدث بضمير المتكلم، إلا أن جمهور البودكاست الاستقصائي يفضل ذلك، لأنه يسهل استيعاب القصة وتعقيداتها.
نظم لحظات العاطفة من خلال صوتك أثناء التسجيل لتحافظ على جذب انتباه المستمع. جسد المشاعر التي تريد أن يشعر بها جمهورك في تلك اللحظة.
جودة التسجيل مهمة، والحفاظ على ثبات صوت التسجيل الخاص بك لا يقل أهمية. استخدم نفس الأجهزة دائما لكل تسجيل. واستخدم الميكروفون نفسه للتسجيل في نفس الوقت من اليوم.
استخدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية أمر لا غنى عنه. والحفاظ أحيانا على الأصوات والمؤثرات الطبيعية الموجودة في خلفية بعض اللقاءات، سوف يضفي الكثير من الحيوية والإثارة لقصتك المسموعة.
مدة البودكاست الاستقصائي المثالية من 30 إلى 35 دقيقة، أحيانا تمتد الحلقة لقرابة 60 دقيقة، لا بأس، لكن حافظ على الإيقاع السريع، والإيجاز، وشد انتباه الجمهور في كل لحظة.
تجربة حية
تالا العيسى، معدّة ومنتجة بودكاست في “منصة صوت” الأردنية، وهي منصة بودكاست تعمل على إنتاج وتوزيع العديد من البرامج الصوتية عالية الجودة باللغة العربية، تقول إن البودكاست وسيط رائع للتحقيقات الاستقصائية، ويمثل إضافة حقيقية لهذا النوع من الصحافة، لأنه يساعدنا في التغلب على عقبات كثيرة كنا نواجهها أثناء تنفيذ استقصاء مرئي أو مكتوب، كما أن تكلفة إنتاجه أقل بكثير، ويمكن إنجازه في وقت أقل.
تالا ترى أن البودكاست يوفر الحماية للمصادر والصحافيين الاستقصائيين معا، خاصة في المجتمعات العربية، حيث يعاني الصحافيين من التضييق والملاحقة.
خلال تجربتها العملية لاحظت تالا أن معظم الضحايا أو الشهود أو المتضررين المعرضين للخطر، يرفضون الظهور والتحدث بوجوههم خوفا من الملاحقة، وإن قبلوا الظهور على مضض لا يذكرون كل ما لديهم من تفاصيل كي لا تتعرض حياتهم للخطر. لكن هذا الأمر أصبح لا وجود له مع ظهور البودكاست، فالصوت وحده يكفي، تقول تالا: “الضحية أو المتضرر عندما يتأكد أن كل ما نحتاجه هو صوته فقط، يتحدث بأريحية ويذكر تفاصيل مهمة بشأن القضية قيد التحقيق، ولا يقلق بشأن سلامته الشخصية، وبهذه الطريقة نجمع بين ميزة حماية الهوية التي يتميز بها الاستقصاء المكتوب، والحميمية التي يتميز بها الاستقصاء المرئي”.
وترى تالا أن البودكاست يوفر الحماية للصحفيين الاستقصائيين أيضا، وذلك لأن المحتوى المسموع صعب التعقب على الإنترنت، وطريقة أرشفته على الشبكة تختلف عن طريقة أرشفة المحتوى المكتوب مثلا، ما يمثل عقبة شديدة أما الحكومات التي تلاحق الصحفيين بسبب ما يكشفونه.
كما أن حجب البودكاست أو الرقابة عليه عمليه شبه مستحيلة، وهذه ميزة أخرى يوفرها البودكاست للاستقصائيين وتحقيقاتهم، حيث يتم نشر البودكاست على عدة مواقع وتطبيقات، وليس موقع واحد، بعضها منصات لا يمكن حجبها أو ملاحقتها، مثل جوجل بودكاست مثلا. وتقول تالا “نحن في بودكاست “صوت” نقوم بنشر الحلقة الواحدة على 10 منصات تقريبا”.
إضافة إلى النصائح المذكورة سلفا، تضيف تالا مجموعة من النصائح الآخرى بشأن البودكاست الاستقصائي أو السردي، والتي استخلصتها من تجربتها العملية مع بودكاست “صوت”.
أثناء إجراء المقابلات لـ بودكاست سردي، لابد ألا نكتفي فقط بالمعلومات التي نحصل عليها من المصادر أو الضحايا أو شهود العيان، بل يجب أن نهتم بالجانب الحسي، وأن نستدعي المشاعر والعواطف والأفكار وردود الفعل التي شعر بها المصدر أو الضحية أثناء تعرضهم للأزمة أو الظاهرة أو الجريمة قيد التحقيق، على سبيل المثال، نسألهم عن مشاعرهم أثناء التعرض للحادث، أو مشاهدة مشهد موت.
لابد أن نبتعد أثناء إجراء المقابلات عن الأسئلة المغلقة التي يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا، ونركز أكثر على الأسئلة المفتوحة التي تستدعي المزيد من التفاصيل.
كتابة سيناريو أو نص محكم للقصة قبل التسجيل أمر مهم، ويفضل أن تكون بعد إجراء المقابلات وليس قبل، لأن ذلك سيجعل القصة هي التي ستقود النص وليس العكس، وهو أمر مهم في البودكاست السردي بشكل عام .
أثناء الكتابة، نراعي رواية القصة بأصوات عدة، لا نكتفي بصوت مقدم البودكاست فقط. تنوع الأصوات يحافظ على حيوية القصة ويحميها من السقوط في فخ الملل.
نحد من استخدام الأرقام والبيانات المعقدة والصعبة قدر الإمكان حتى لا يتسرب الملل للمستمع، وفي حال اضطررنا لاستخدامها لأهميتها في القصة، نستخدمها بقدر محدد، ونبسطها، ونقسمها ونوزعها على مواضع مختلفة. “أنسنة” القصة هو أحد أهم العناصر المميزة للبودكاست السردي أو القصصي، حيث يتمكن الجمهور من سماع الأصوات الحقيقية لأبطال القصة، صوت الضحية أو شاهد العيان أو المسؤول. لذا نحاول أن نسرد قصصنا من خلال حالات وشخصيات محورية، ثم نخرج من الشخصي إلى العام، ونتناول الظاهرة أو الأزمة بشكل موسع.
IJNet