عدنان الحسين
التحقق من صحة الأخبار ليس دواءً سحريًا ضد الأخبار المزيفة، لكنه إضافة مطلوبة بشدة إلى آلة الأخبار.. هكذا يصف ألكسندر بليتر وبيتر برجر، مؤسسا مشروع التحقق من المعلومات Nieuwscheckers في هولندا، عمليات التحقق من الأخبار الزائفة.
ويرى مدرّسا التحقق من المعلومات في جامعة لايدن الهولندية، بليتر وبرج، أننا بحاجة للتعامل مع المعلومات المضللة بطريقة مختلفة عن التحقق من المعلومات، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: هل تكفي الأدوات التقنية للتحقق من المعلومات والأخبار والصور والفيديوهات أو لكشف التضليل الذي تنطوي عليه؟
قصور الأدوات التقنية
الإجابة عن هذا السؤال تبدو للوهلة الأولى بسيطة، فالأدوات تتطور يوماً بعد يوم، لكن رغم فاعليتها وسرعتها تبقى قاصرة عن تمييز المحتوى الخطأ أو المضلل، ولا يمكن الاعتماد عليها كلياً في ذلك، لأنها تسمح فقط بالبحث بعمق عن جزء من الحقيقة دون أن تعطينا النتيجة النهائية، وهو ما دفعنا لكتابة هذا المقال.
منذ الأيام الأولى من الحرب الأوكرانية نعمل في فريق التحقق بوكالة سند، التابعة للجزيرة، بوتيرة غير مسبوقة: نبحث، نمحص، نحلل، وننتج مواد تواكب الكم الهائل من المعلومات. ورغم قدرتنا على المواكبة، فإننا توقفنا كثيراً عند موادّ بعينها، منها مقطع فيديو لطائرة حربية تحلق على علو منخفض تستهدف مبنى بداخله سيدة وطفلها (السيدة هي التي كانت تلتقط ذلك الفيديو). بعد ساعات من العمل المكثف، توصلنا إلى معلومات حول صحة الفيديو وتاريخ نشره، لكننا عجزنا عن تحديد الجهة المنفذة، وكان لا بد من الاستعانة بأشخاص يتقنون اللغتين الأوكرانية والروسية، ويعرفون تماماً طبيعة تلك البلاد وما تملكه من أسلحة للوصول إلى نتيجة شبه نهائية. إن المعضلة الأكبر في عملية التحقق كانت في فهم السياق العام والتحليل الاستراتيجي حتى نستطيع الحكم بنتيجة نهائية.
يقول موفق توفيق، المترجم في شبكة الجزيرة، خلال إحدى الدورات التدريبية التي كنت حاضرا فيها، إنه لا يمكن للشخص أن يصبح مترجماً ما لم يتمكن من فهم السياق العام للحدث، وكذلك فهم المعاني الضمنية للكلمات. هذا تشبيه مطابق تماماً لعملية التحقق من المعلومات، إذ من غير الممكن أن يكتمل التحقق دون الإلمام بسياق الحادثة أو تشكيل فهم ومعرفة كافيين للوصول إلى المعلومة الدقيقة بشكل كامل.
في كل يوم تزداد ثقافة التحقق من المعلومات، ويتسع انتشارها مع ازدياد رواد مواقع ومنصات التواصل والمحتوى المنشور عليها بشكل آني، ما يفرض وجود محتوى يندرج تحت خانة التضليل بسياقاته كافة ولأهداف مختلفة. لكن مع تطور الأدوات والذكاء الصناعي يقع الصحفيون -خلال استخدامهم لهذه الأدوات- في فخ التحقق الشكلي دون الوصول إلى أصل المعلومة، وذلك لعدم قدرتهم على فهم سياق الحدث أو المعلومة.
وتحاول مؤسسات إعلامية تفادي الوقوع في فخ المعلومات المزيفة بتوظيف فرق داخلية مهمتها التحقق من الأخبار والصور والفيديوهات والمعلومات، فتمر المادة الإعلامية على هذه الفرق، التي تعيد إنتاجها والتحقق منها قبل نشرها. ومع ذلك، يظهر بعد حين أن التحقق المبني على الأدوات أوقع المؤسسة في فخ التضليل غير المتعمد، بتقديم معلومة غير أصلية، وهناك أمثلة كثيرة حصلت وتحصل في كبرى المؤسسات الإعلامية العربية والأجنبية.
فهم السياق
ولفهم أهمية الإلمام بالسياق وموهبة التحليل عند المتحقق، نأخذ مثالاً حياً من الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرة منذ أشهر، حيث وقعت عشرات المؤسسات في فخ التزييف والتضليل بعد أن نقلت مقاطع فيديو وصوراً لم تستطع الأدوات التقنية المتوفرة في الوقت الحاضر كشف زيفها، ليقع العبء على عاتق الصحفي أو المتحقق، ودرجة إلمامه بسياق المعارك وتطورها ومعرفته لتضاريس البلاد، وما تمتلك البلدان من بنية تحتية ومعدات عسكرية وغيرها.
ويعتقد نيك ووترز، كبير المحققين في مؤسسة “بلينغكات” (bellingcat) المتخصصة في التدقيق والتحقق من المصادر المفتوحة، أنه لحل أي مشكلة، عليك أن تفهما أولاً، فالغالبية العظمى من محتوى الفيديو المضلل الذي نراه على الإنترنت هو في الواقع لقطات يعاد تدويرها من حوادث أخرى، ولن نستطيع التحقق من هذا المحتوى أبداً على أنه مزيف أو تم التلاعب به بواسطة أداة تقنية، لأنه ببساطة محتوى أصلي أعيد تدويره. وعليه، يعد فهم سياق الموضوع ووضع هذا المحتوى بدقة في المكان والزمان باستخدام المعلومات المرتبطة بالصور أداة أكثر فاعلية لتحديد المحتوى المضلل من الأدوات التقنية.
ويقدم ووترز نصيحة “ذهبية للعاملين في التحقق، من صحفيين وغيرهم، وأهمية الإلمام بالسياق والتحليل قائلاً: يجب أن يكون لديك فهم عميق، ليس لتقنيات التحقق فقط بل للسياق المحلي، من تقييم المحتوى بشكل أفضل وضرورة فهم حدود معرفتك والقيود على تلك المعرفة لتصل إلى تقييم وإدراك أوسع لأي محتوى.
ويضرب ووترز مثالاً عن أهمية الفهم العميق للحدث أو الموضوع وعدم الاكتفاء بالأدوات التقنية، بأن الكثير من مقاطع الفيديو المزيفة استخدمت لمحاولة اختلاق قصة ما. أقرب مثال على ذلك المقاطع التي تم تداولها أثناء انفجار بيروت، والتي تفيد بأن صاروخاً تسبب بالانفجار اعتماداً على ما نشر بعد لحظات من الحادثة دون تعديل، حيث لم تكن الأدوات التقنية كافية لتفنيد تلك الرواية الكاذبة، بل كان لا بد من إجراء تقييم سياقي واسع دائماً.
الأدوات عوامل مساعدة
لا يكفي الحس التحليلي والبحثي للصحفي لكشف زيف ما أو التحقق من موضوع ما في بعض الحالات، فالأدوات التقنية ومهارات البحث عوامل مساعدة قيّمة، لكن ما يفوقها أهمية أن يكون مدقق المعلومات أو الصحفي على معرفة أو فهم بسياق المعلومات، فالأدوات تقودنا لنتائج نبني عليها قصتنا لنكتشف لاحقا أننا وقعنا في خطأ، هذا ما يؤكده أحمد بريمو، مؤسس منصة “تأكد” للتحقق من المعلومات.
ويقول بريمو إنه من الضروري لأي مدقق أو صحفي امتلاك ثلاث مهارات: استخدام الأدوات التقنية على النحو الأمثل، التحليل والبحث، والأهم من ذلك معرفة وفهم سياق الموضوع أو الحادثة. وفي حال افتقاده للمهارة الثالثة فيجب عليه الاستعانة بزملاء أو أشخاص على دراية كاملة بسياق الموضوع الذي يبحث فيه أو يعمل عليه.
“إذا كان تدقيقك للحقائق يقتصر على من، ماذا، وأين، ومتى؟ فلن تفهم أبدًا السبب، وللحصول على إجابة عن سبب حدوث شيء ما، فأنت بحاجة دائمًا إلى سياق”، هكذا يجيب هينك فان أس الخبير في التحقق من المصادر المفتوحة، عن أهمية المعرفة بالسياق في أي قضية تحقق من المعلومات.
ويقول فان أس عن أهمية فهم السياق والتحليل العميق؛ “يمكنك سرد جزء فقط من القصة بواسطة الأدوات، لكن للتحقق لا تحتاج مهارات حرفية فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى مهارات جانبية مثل البحث الإبداعي في الأنماط والسياق ونقاط الترابط الخفية”.
ويعطي فان أس نصيحة قيمة لكيفية التعرف على السياق لأي حدث ما بالقول: “يتم ضبط خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث على ما يريد عامة الناس معرفته، بينما تعمل وسائل الإعلام بالفعل مع جمهور أوسع، لكن أبحاثهم غالبًا ما تكون مركزة ومفصلة للغاية”.
ويعتقد هينك أن الاستخدام الأكثر فاعلية للأدوات يكون بكيفية طرحك للسؤال الذي تريد الإجابة عنه، فعندما لا تقوم بالتصفية البحثية بذكاء، ستحصل على نفس الإجابات التي يحصل عليها الجمهور.
ويرى أن أفضل طريقة للتحقق من الأشياء هي الرجوع إليها ولأصلها. على سبيل المثال عندما تجد مقالًا عن اجتثاث الغابات في بلدة برازيلية صغيرة في غوغل، اكتب الكلمات الرئيسية (الكلمات المفتاحية) مرة أخرى بدون المصدر فستحصل على معلومات سياقية بسرعة أكبر وهذه الطريقة التي يستخدمها بشكل يومي.
إذا أردنا حقيقة أن نلخص عمل مدقق المعلومات أو الصحفي المتخصص بالتحقق من المعلومات، فعلينا أن نشبهه بقاض في المحكمة ينظر إلى القضية من جوانبها كافة، ويرى جميع التحقيقات الجانبية وتاريخ ومكان الحادثة، ثم يستخدم فهمه لسياق الحادثة قبل الإعلان عن قراره النهائي، وهكذا عملية التحقق لن تنجح طالما لم توظف كل حادثة في سياقها وفهمها بشكل كامل.