غسان مراد
بات من المسلمات اليوم ذلك التداخل بين المعلوماتية والتقنيات بشكل عام من جهة، وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية والإعلامية من جهة أخرى، وهو تداخلٌ يجعل الأسئلة تتمحور حول ضرورة تعديل المناهج التعليمية لطلاب الصحافة، لجهة الكتابة وما يصاحبها من عناصر بارانصيّة، أي نصوص محاذية.
لذا، يتطلب الانتقال إلى المرحلة الجديدة في عالم الصحافة مختصين يتمتعون بكفاءات تجمع بين الإعلام والمعلوماتية كعلم، وليس كمجموعة أدوات طباعية، ولعدم توفر تلك الأدوات، يسود التخبط حالياً، رغم أن الأهداف واضحة، وتبدأ بتمكين الطلاب من الدخول إلى سوق العمل ذي الاحتياجات المتغيّرة، إلى جانب تدعيم مختلف المؤسسات الإعلامية.
أما عن التغيّرات الحاصلة في عالم الإعلام، فهي تحتّم على الصحفيين التعرّف إلى كيفية بناء المنصات الرقمية وتصميم خوارزميات ترتبط بالصحافة الرقمية، في وقت باتت التطبيقات الرقمية ضرورة، إضافة إلى معرفة أدوات البحث والتنقيب. كما أن الأبحاث المستقبلية في هذه التطبيقات ترتبط بما يسمى تقنيات المعالجة الآلية للغة، وكل ما له علاقة بمفهوم الإنسانيات الرقمية، التي هي عبارة عن مفهوم يتعلق بالتجديد في العلوم الإنسانية والإعلامية؛ أي بناء علوم جديدة ترتكز على ما سبق، ولكن في الوقت نفسه، تبني الإنسانيات الرقمية مفاهيم جديدة تتماشى مع التغيرات الرقمية.
من هنا، بات على الصحفي، أن يكون على دراية بعلوم الحاسوب المساعدة في تصميم البرمجيات المرتبطة بالإعلام الرقمي، إلى جانب تمكنه من مهمات الصحفي الأساسية كإعداد التقارير والكتابة والمعرفة الجيدة للغة والتمتع بأخلاقيات المهنة. كل ذلك يتم من خلال تأهيل طلاب الصحافة، وتدريبهم على بعض المعادلات الرياضية ذات الصلة، والأدوات والروابط المنطقية التي تعد ركيزة تصميم الخوارزميات، بالإضافة إلى أهمية ذلك في الإحصاء. لذا يجب أن تكون المعلوماتية جزءاً أساسياً من اختصاص الصحافة.
ومن المعلوم أن الكتابة للإعلام الرقمي مختلفة عن الكتابة للإعلام المطبوع، والقراءة عبر شاشة مغايرة لقراءة الورق ذات الأسلوب الانتقائي الأقل بساطة، ما يجعل تمكين الطلاب من المهارات المساعدة على إدارة إنتاج الوسائط الرقمية ضرورية، إضافة إلى مساعدتهم على الابتكار لبناء تطبيقات رقمية تعالج الوسائط المتعددة والربط فيما بينها.
في الشق النظري، تساعد المعلوماتية على التفكير النقدي، إذا أن أساسها هو المنطق، وتتيح توضيح أي لبس في فهم عمليات التواصل؛ فالمعرفة في التقنيات المعلوماتية لها دور في تعليم الطلاب تقنيات المعلومات التي تراوح بين التنقيب واسترجاع البيانات، وتأطيرها ووضعها في أنظمة قواعد بيانات، كما تساعدهم على هندسة البرمجيات المتطورة التي تُستخدم في بناء واجهات للمستخدم (أعتقد أن “وصلات بينية” أفضل) (Interface) تتماهى مع النص الإعلامي، إضافة إلى تعريفهم بحيثيات المعايير التي تؤدي إلى الأمانين المعلوماتي والشبكي.
وفي هذا السياق، يفترض معرفة كيفية بناء “فقاعات التنقية” التي تستخدمها حالياً كافة شبكات التواصل ومحركات البحث. تلك الفقاعات تحصر المستخدم في مجال معرفي محدد وفق عملية البحث، وعليه، فإن المحركات لا تزوده من المعلومات إلا ما يتناسب مع ما تم البحث عنه سابقاً.
وبهذا تكون محركات البحث وشبكات التواصل حدت من إمكانية الانفتاح على المعلومات المختلفة التي تطرح آراء مختلفة. لذا، تؤدي هذه المعارف المختلفة إلى فهم عملية التقييم التي تستخدمها محركات البحث كي تكون مقروءة، وكيفية تحيز المحركات في إيصال الخبر الذي تريد، لذلك هناك حاجة إلى مزيد من الصحفيين العارفين في كيفية عمل هذه الأنظمة وما الذي يمكنهم القيام به، إذ أن التقنيات اليوم تقدم للمستهلك البيانات وفق ما يريده المستهلك نفسه.
أما في غرف الأخبار، سنجد لاحقاً مختصين يتمتعون بمهارات ضرورية لبناء الأدوات والمنصات. لهذا فإن التعرف على المفاهيم المتعلقة بخوارزميات التعلم الآلي بات ضرورياً كونه يشكل جزءاً من كافة الخدمات التي يتيحها الإعلام، كمبادئ التحليل الإحصائي والعمليات البشرية التي تولد البيانات، وتحليل الشبكات ودورها في الصحافة الاستقصائية، إضافة إلى تقنيات التصوير والأرشيفات المعرفية المرتبطة بعرض الصور.
وفي الوقت الحالي، يحتاج صحفيون كثيرون إلى فهم ماذا يجري فعلياً، لهذا عليهم فهم العلوم التقنية، التي ستساعدهم على فهم ما يريده التقنيون العاملون في مجال الصحافة. فإذا ما اعتبرنا أن كل المواضيع باتت متعلقة بالتقنيات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإن عملية كتابة الأخبار وعلاقتها بالعلوم الرقمية بحاجة إلى مختصين للحد من الفجوة الحاصلة بين العلماء والناس، لأن الكتابات العلمية موجهة فقط إلى جمهور علمي، ولكن نقل المعرفة العلمية يجب أن يكون بطريقة سهلة ومبسطة لضمان نتائج أفضل.
إن مستقبل الصحافة يتطلب المزيد من التفاعلات المباشرة مع الجمهور، إذ بتنا نشهد تزايداً في الإنتاج والنشر على أنواعه. ولكن يبقى الإعلام الكلاسيكي أساسياً، شرط أن يكون معمّقاً، وأن يعطي الناس ما لا يمكن أن يجدوه شائعاً ومكرراً ومبعثراً في كل مكان. فلا يحمي الإعلام إلا الإعلام، من خلال إعطاء المحتوى المناسب، والتحوّل نحو الدراسات والاستقصاء، الذي من الصعب أن يتم، إلا من خلال فهم الرقمنة وأدواتها.
إن العثور على مصادر يستغرق وقتاً، كذلك إجراء المقابلات، وإذا تمكنت الحواسيب من إجراء العمليات الحسابية المعقدة، فإن نوع التفكير اللازم للعثور على قصص جديرة بالاهتمام واختبارها، لا بزال مهمة الأفراد.
الجدير بالذكر أن تعليم المعلوماتية كعلم، يساعد في فهم عمليات المعالجة الآلية للغة وللنصوص، أو ما يسمى اللسانيات الحاسوبية، وهي عبارة عن خوارزميات وتطبيقات للبحث والتنقيب عن المعلومات، وبناء برامج التحليل الآلي للنصوص والترجمة الآلية التي تأخذ حيزاً مهماً في الإعلام الرقمي، والتي سيكون لها دوراً في الإعلام ضمن الأعمال المستقبليّة.
ترتكز كافة التطبيقات للكشف عن المعلومات والأخبار الزائفة حالياً على برمجيات حوسبة اللغة، بالإضافة إلى دورها في عمليات التصنيف والتوثيق والأرشفة الرقمية والفهرسة وربط النصوص والمقالات فيما بينها من ناحية، ودورها في بناء برمجيات للقراءة وللتوليف والبحث عن التركيب النحوي الصحيح والتدقيق اللغوي، إلخ، من ناحية ثانية. كل ذلك بحاجة لمعرفة علوم اللغة واللسانيات.
في المؤسسات الإعلامية معلومات مؤرشفة كثيرة يصعب الولوج إليها؛ أما المعالجة الآلية لهذه النصوص وتحويلها رقمياً، إذا ما كانت ورقية أو مطبوعة أو على ميكروفيلم، فهي بحاجة إلى تطبيقات تساعد على استغلالها والحفاظ عليها مستقبلا والاستفادة منها.
هناك أيضاً معلومات وبيانات “خام”، فالمعلوماتية تساعدنا على استنتاج ما يلزمنا منها، وهذا يرتكز على أدوات رقمية لتوليد نتائج وملاحظات جديدة. فتقنيّات البيانات الضخمة باتت أساساً في بناء الأخبار، والمعلوماتية تؤدي إلى معرفة كيفية استنتاج بيانات سهلة الاستخدام من قبل المستخدم. هذا المحتوى هو خزان العمل الصحفي حالياً، ولكن على الصحفي معرفة كيفية الوصول إليها، إذ إننا بحاجة إلى تطبيقات لتحليل “البيانات الضخمة”، وهو مفهوم يتم العمل عليه في مجال الإحصائيات، كما في مجال التعلم الآلي، ما أدى إلى عودة بروز مفهوم صحافة البيانات الذي بات أساساً في العمل الصحفي وله أهمية أكبر حالياً. فالرقمنة أدخلتنا في عالم الحساب لكل شيء، بما فيه حساب الفكر لدرجة أن المؤسسات الرقمية، كالـ “غافا”(GAFA) باتت تتحكم بسلوكيات الأفراد من خلال دراسة شخصياتهم على شبكات التواصل.
في تحاليل إخبارية وإعلامية عدة، يتم الاعتماد على تلك البيانات التي لا يمكن أن تُعالج إلا من خلال برمجيات آلية كي نستنتج ما يلزم لبناء الخبر والتحليل. وإذا كانت البيانات موضوعية كأرقام، فهل تحليلها يجسد حقيقة غير متحيزة وغير سياسية، ومن أين تأتي البيانات؟
كل شيء عبارة عن بيانات بما فيها حياة الناس، وهي أيضاً إجابات على أسئلة المقابلات. فما هي الدوافع لهذه التساؤلات؟ هنا، على الباحث نقد كل هذا، فالشك عنصر ضروري في الصحافة، وهي فكرة أساسية لهذه المهنة. على مستوى ما، يجب ألا تثق تمامًا بأي مصدر، ويجب أن يمتد هذا الشك إلى البيانات. فتأكيد البيانات وسياقها هي النقاط الأساسية، لأن تحليل البيانات وحده ليس الصحافة. فمن المفترض بالبيانات أن تُفهم أولاً، ثم تُفسر ويُعرض معناها بطريقة ملائمة وذات صلة بالجمهور. على سبيل المثال، إذا أردنا أن نبين حالة السوق المالية حالياً من خلال رقم ما، علينا البحث في البيانات لطرح كيف كان سابقاً. يجب أن توفر الصحافة معلومات يمكن للناس من خلالها اتخاذ قرارات أفضل بشأن حياتهم. ومن دون تفسيرات مماثلة، يعتبر ذلك إحصائيات وليس صحافة، وهذا ما يمكن أن تساعد به البيانات الضخمة.
في الخلاصة، بالإضافة إلى المعرفة “الكلاسيكية” التي تُعطى للطلاب في كليات الإعلام، من المفترض أن يبدأ تدريس المعلوماتية كعلم بتعليم الخوارزميات لتصميم البرمجيات لأنها ضرورية مستقبلاً. فما يُدرس حالياً لطلاب الإجازة غير كاف، فلا يمكن أن ندرسهم كيف نبني موقعاً إلكترونياَ من دون تعليمهم كيف تُبنى خوارزميات “جافا سكريبت” مثلاً على أقل تقدير. كما لم يعد يكفي أن ندرس التطبيقات الكتابية فقط، بل علينا تخطي ذلك إلى أساليب بناء قواعد البيانات، والإحصاء عبر برمجيات متخصصة لذلك. ففي بعض الجامعات يتم تدريس بعض مواد المعلوماتية لطلاب الدراسات العليا، لكن بحسب التجارب، لم تؤد تلك الآلية دورها الفعلي، لأن تدريس المعلوماتية له أسس أكاديمية تساعد على اكتساب المعرفة، وتأتي بشكل تدريجي تصاعدي، وهي بحاجة إلى تهيئة في الرياضيات والمنطق الرياضي، كي يصبح الطالب قادراً على بناء الخوارزميات وفهمها بما يتناسب مع قدراته العقلية وحاجاته في الاختصاص. تعليم المعلوماتية والخوارزميات له أيضاً أبعاد أخرى بدأت تأخذ مداها فيما يخص تقنيات الذكاء الاصطناعي. أولاً، فيما يتعلق بتوليد النصوص آلياً من جداول البيانات الرقمية المختلفة، على سبيل المثال توليد النصوص آلياً من اللوائح الموجودة في ملاعب الكرة، أو من الجداول الرقمية في البورصة. وثانياً، فيما يتعلق بتوليف النصوص لقراءتها من قبل الروبوتات. كل ذلك بحاجة إلى تدريس المعلوماتية بشكلها العلمي المتقدم مصحوباً بحوسبة اللغة العربية التي يُعمل عليها في مراكز أبحاث عدة في العالم.
معهد الجزيرة للإعلام