شادي لويس
رغم أن الصحافة السردية تعرف بأنها استخدام أدوات الأدب لوصف الواقع، فإن التداخل بين الأدب، بالإضافة إلى عوامل أخرى، قد يسعف في فهم لم طغت اللغة على جوهر الصحافة: البحث عن المعلومات. في مسار هذا التداخل، أغرقت الصحافة بالأدب، وارتبط السرد في الصحافة بالقدرة على الإبهار اللغوي.
في العام 1958، انتهى الصحفي والروائي الأرجنتيني، رودولفو والش من تدوين كتابه المعنون، “العملية مذبحة”، الذي وثق فيه عمليات الإعدام الجماعي التي نفذت ضد أنصار الرئيس بيرون في العام السابق على نشر الكتاب، أثناء فترة من الاضطراب السياسي تحت الحكم العسكري. جرت العادة على تصنيف هذا العمل الشهير تحت وسم الرواية، لكن ولأنه قد اعتمد في تفاصيله على جهد استقصائي تتبع بشكل مدقق شهادات سبعة من الناجين من المذبحة، لم يكن من المستغرب اعتبار الرواية عملاً “غير خيالي”، أو إضافة صفة الاستقصائي إليها.
كان تجاوز والش للحدود بين التوثيقي والأدبي، واستخدام أدوات الأول داخل قوالب الثاني، والعكس، كفيلاً بتتويجه كأحد رواد الصحافة الاستقصائية، وكذا اعتباره أبا للرواية غير الخيالية أو الصنف الأدبي الأوسع الذي سيعرف لاحقاً باسم”الواقعي الإبداعي”. ولاحقاً، وبداية من مطلع الثمانينات، سيتم العودة إلى تراث والش، وأعماله الصحفية الاستقصائية ذات الأسلوب البلاغي والوصفي المفعمة بالجماليات اللغوية، واعتبارها أحد النماذج الرائدة لأسلوب في الكتابة الصحفية سيعرف في الولايات المتحدة والصحافة الأنجلوسكسونية عموماً باسم”الصحافة السردية” التي حملت أيضاً اسم”الصحافة الأدبية”.
وبإيجاز يمكن القول إن الصحافة السردية، تتضمن بيانات ومعلومات دقيقة، وتسعى في الوقت ذاته إلى إثارة الاهتمام والعواطف، بتقديم القصة الشخصية وراء الأخبار الكبرى، وعبر مزج التقرير الصحفي بالأسلوب الأدبي، بحيث يلعب الصحفي وتلقيه الذاتي والانطباعي والمباشر للحدث، وكذا شخصيات قصته الخبرية، أدوارا مركزية في النص. وفي تعريف آخر، تستلزم الصحافة السردية توفر العناصر التالية: تعيين مشهد الأحداث ووصفها لنقل الحالة إلى المتلقي، شخصيات، صوت الراوي بخصائص شخصية يمكن تعيينها والتفاعل معها، بناء علاقة مع الجمهور، بالإضافة إلى وجهة للأحداث يقود إليها موضوع عام أو هدف نهائي أو منطق حاكم.
بالطبع تعود التداخلات بين الأدب والصحافة، إلى ما قبل والش وروايته، فالعناصر المشتركة بينهما لا تحتاج إلى تدليل، اللغة بوصفها المادة الخام لكليهما، والغرض أيضاً، أي مهمة بناء المعنى ونقله إلى جمهور واسع عبر وسيط مطبوع ومعد للقراءة. أما السرد فليس مجرد عنصر مشترك بين الصحافة والأدب، بل يعد العمود الفقري لهما، فبحسب التعريف اللغوي، السرد هو التتابع أو التسلسل في الحديث أو الكتابة، واصطلاحاً فهو نقل الحدث أو الخبر سواء كان واقعياً أو خيالياً أو جمعاً ما بين الاثنين، ضمن إطار زمني ومكاني، وبالاستعانة بعناصر الشخصيات والوصف والحوار والحبكة، بطريقة تجذب انتباه المتلقي وتحثه على متابعة الأحداث المسرودة. ومن ذلك التعريف الأساسي، تتأكد تلك العلاقة الجذرية التي تربط الأدب والكتابة الصحفية وبالأخص ما يطلق عليه “القصة الصحفية”.
لكن وحسب المدارس الكلاسيكية، فإن الفارق الواضح بين النصين الأدبي والصحفي هما العلاقة التراتبية بين القالب والمضمون في كل منهما. فبينما يعطي الأدب الأولوية للقالب على المحتوى وللأسلوب على المضمون، يركز العمل الصحفي على المحتوى، بينما تأتي البنية والجماليات اللغوية في مرتبة لاحقة من حيث الأهمية، بحيث يكون دورها هو خدمة المضمون. وضمن هذا السياق، ترسم الدقة والوضوح والحياد أركان الكتابة الصحفية، وعلى الجانب الآخر تتقدم الجماليات بوصفها هدفا في حد ذاته داخل الحقل الأدبي.
والحال أن تلك التمايزات المفترضة لا تصمد طويلاً، لا أمام النقد النظري، ولا أمام الواقع العملي. فمن الناحية النظرية، تم تفنيد ثنائية القالب والمضمون واعتبارها مصطنعة أو شكلانية، فصياغة واقعة خبرية بأسلوب تهكمي كفيلة بإضفاء معنى مغاير تماماً عليها مقارنة بصياغات لنفس الواقعة جادة أو متأسية أو حماسية. وبالقدر نفسه من الشك تم الطعن في القيمة النظرية لمفهوم “الحيادية” الصحفية، ففي العالم الحقيقي تمر المادة الصحفية عبر سلسلة طويلة من العدسات “الذاتية”، بداية من شهود العيان والمصادر، مروراً بالصحفي وحتى تصل إلى يد المحرر ومنسق الصفحات، ويلعب في تلك السلسلة مدى واسع من التفاعلات تتقاطع فيها العوامل الشخصية والانطباعية والجمالية والقناعات الأيديولوجية وتضارب المصالح وسوء الفهم والذوق والميول الفردية والسياسات المؤسسية.
ومن حيث الواقع العملي، فإن التوسع الهائل في صناعة الصحافة عالمياً منذ مطلع القرن العشرين، مع ارتفاع معدلات التعليم ومستويات الدخل، قد خلق مساحات متعددة للمنافسة في المجال الصحفي، ومدى واسعا من الإصدارات المتخصصة والنوعية، ومعها حاجة ملحة لإشباع أغراض متنوعة لدى قطاعات متباينة من المستهلكين كانت الدقة والحيادية أحدها كما كانت المتعة والجماليات والبحث عن الإثارة أيضاً. ومع ظهور الشاشات، لم تتداع الحدود بين الصحفي والأدبي فقط، بل وبينهما وبين السينمائي (حتى وقت ليس ببعيد كان يسبق عرض الأفلام في قاعات السينما نشرة إخبارية سينمائية مقتضبة)، ولاحقا ومع التمدد التلفزيوني والشاشات المنزلية والشخصية بأنواعها، غدا من المعتاد توظيف الأعمال الوثائقية المرئية لخليط من التقنيات الصحفية والدرامية وجماليات الفنون التشكيلية معاً.
لا تعد الحالة العربية استثناء في تداخل الصحفي والأدبي وتشاركهما معينا وحيدا من الأدوات والتقنيات. وبالتركيز على الصحافة المطبوعة، فيمكن القول إنه وبشكل تقليدي احتوت الجرائد والدوريات بالعموم على خليط من النصوص، الخبري ومقالات الرأي والتقارير الصحفية جنباً إلى جنب مع رسائل القراء والقصص القصيرة والمقاطع الروائية مع القصائد والزجل بل وأحياناً النكات والنوادر وعرائض الشكوى والإعلانات التجارية. إلا أن عددا من العوامل ساهم في إرساء تقاليد تسيدت فيها القيم البلاغية والأدبية على المضمون الخبري والتقريري والتحليلي.
فمن حيث السياق التاريخي، كان ارتباط ظهور الصحافة وانتشارها بحركة النهضة العربية، وبالعكس أي أرتباط عصر النهضة العربية بالجرائد والمجلات المطبوعة، قد حمّل الصحافة أدواراً سياسية وأيدلوجية عديدة، فالدعوة إلى التحديث والاستقلال وإحياء التراث، تجاوزت مجرد التقرير والتحليل والإعلام، إلى الترويج والحث والإقناع والتحريض، مما تطلب أدوات بلاغية وتقنيات خطابية متنوعة داخل النص الصحفي.
وكان من شأن صحافة النهضة أن تساهم أيضاً بدور جذري في إنتاج فصحى حديثة وعملية، وجدت طريقها بشكل عكسي من الجرائد لتغذي لغة الأدب. على هذا الأساس، ليس من المستغرب أن رواد الصحافة العربية بداية من عصر النهضة امتهنوا إلى جانب العمل الصحفي الإبداع الأدبي، وهو تقليد يجد مقابلة في المجتمعات الغربية، لكن يبدو حضوره أكثر وضوحاً في مناطق أقل تطوراً من الناحية الاقتصادية، مثل العالم العربي وأمريكا اللاتينية حيث لا يسمح حجم السوق الرأسمالي المحدود ولا عمقه، بتكثيف عمليات التخصص المهنية وتوسيع المسافات والحدود بينها. وكان لتلك التقاربات المهنية أن تلقي بظلالها على التداخلات بين الصنوف الكتابية، صحافة وأدباً.
تبدو مهمة التأريخ للتأثيرات المتبادلة بين الصحافة والأدب في السياق العربي مهمة ضخمة لا تسعى هذه المقالة للتعرض لها، ولا حتى إيجاز مسارها بشكل تقريبي أو في إطار خط زمني في عدة نقاط، وإن كان يمكننا الإشارة إلى ملاحظة أو اثنتين فيما يخص تطورها التاريخي.
النقطة الأولى هي أن هيمنة أنظمة الحكم السلطوية على بلدان المنطقة منذ الاستقلال، قيد إمكانية العمل الصحفي التقريري والخبري والاستقصائي أو التحليلي بشكل جاد، وعوق تطور مؤسساته وكوادره، وغطي على ذلك النقص بوسائل بلاغية في معظمها. وفي الحالات أو الفترات التي سمحت فيها بعض الأنظمة للصحافة المطبوعة بقدر من الحرية المحسوبة والمقيدة، تبنت الجرائد المستقلة أو المحسوبة على المعارضة أدوارا حزبية وحقوقية وتوعوية، لعبت فيها الأدوات الخطابية والجمالية مرة أخرى الدور الرئيسي في عمليات الإقناع والتحريض والتجنيد السياسي.
النقطة الثانية والأخيرة الواجب التوقف عندها، هو ظهور ما يمكننا التجرؤ على تسميته بـ “الكتابة الجديدة” في الصحافة الرقمية العربية خلال العقد الأخير. تجد تلك الصحافة جذورها في عالم المدونات، وتدين بصعودها إلى انطلاق الثورات العربية، ومساحات الحرية التي أتاحتها وتضمينها للمزيد من الفاعلين داخل منظومة الإنتاج الصحفي وتغييرها لقواعد التمويل ووسائل النشر والتفاعل. تقدم منصات رقمية مثل “مدى مصر” و”حبر” الأردنية و”الجمهورية” السورية اللبنانية و”متراس” الفلسطينية و”خط ٣٠” وغيرها، تقارير استقصائية محكمة وتحليلات متأنية وعرضا خبريا شديد المهنية، بحسب معايير الصحافة التقليدية، وبالتوازي تقدم فيضا من نصوص الصحافة السردية، بمسحة ذاتية وجماليات وأدوات تغلب عليها الأدبية. تبدو تلك الكتابة الجديدة شديدة الشبه بنصوص رودولفو والش، وبالقدر نفسه وارثة لجماليات صحافة عصر النهضة العربية ونوايا لغتها وبلاغتها. ومع أن تلك الكتابة تحمل إمكانيات واعدة وملهمة، إلا أن الظرف السياسي الارتكاسي، وارتداد المنطقة مرة أخرى تحت حكم الأنظمة السلطوية، الأكثر شراسة، وما استتبعه من انحسار فرص ممارسة العمل الصحفي الاستقصائي بل وحتى الخبري في حده الأدنى، يمثل تهديداً لها، وربما كان أكثر أعراضها خطراً هو انكفاؤها على نفسها، أي الإغراق في ذاتيتها وبلاغتها.
معهد الجزيرة للإعلام