منتصر مرعي
كيف يفرض إنسان سلطته على إنسان آخر؟ “بأن يجعله يعاني”. كانت إجابة جورج أورويل على لسان “ونستون” في رواية 1984 حقيقية ومؤلمة عندما تحدث مبكرا عن الأخ الأكبر، والرقابة المفرطة التي تتغلغل تحت جلودنا. لقد حولتنا السلطة إلى عيون نراقب بها أنفسنا، وأحيانا نشي بها. نبدأ حوارا في غرف الأخبار قبل الخوض في أي شيء! نقاش محتدم، وشعور بالألم والاحتقان داخل الصدر، ينتهي بصرف النظر عن الفكرة. لقد نجحت السلطة.
كيف طورت السلطة من أساليبها في ملاحقة الصحفيين ومحاصرتهم؟ كيف أخضعتهم عندما وفرت كل أسباب المعاناة والألم؟
ربما لم نعد في عصر يسمح باعتقال الصحفي لأنه يثير حفيظة المنظمات الدولية، وهو ما تخشاه الدول اليوم في الإساءة إلى سجلها في ظاهر الأمر. تحولت السلطة إلى أساليب جديدة للتضييق على الصحفيين دون اقتراف ما يمكن أن يضعها في موضع المخل بحرية الصحافة وحقوق الإنسان. وهذا لا يعني أنها لا تعتقل الصحفيين، لكنها تحاول تجنب ذلك إذا ما توفرت أساليب أخرى تحقق ذات النتيجة.
نبدأ حوارا في غرف الأخبار قبل الخوض في أي شيء! نقاش محتدم، وشعور بالألم والاحتقان داخل الصدر، ينتهي بصرف النظر عن الفكرة. لقد نجحت السلطة.
الأسلوب الأول:
لا تلجأ السلطة اليوم -غالبا- إلى اعتقال الصحفي إذا ما كان مصدرا للإزعاج. يكفي أن تحرض طرفا ما أو أن تقوم بالأمر بنفسها باسم الحق العام من خلال رفع قضية ضد الصحفي. لدى السلطة حزمة كبيرة من القوانين التي أنتجها نظام غير ديموقراطي وفصلها لخدمتها وأصحاب النفوذ. يساعدها أسطول من أجهزة الأمن المتأهبة لمراقبة الصحفي وملاحقته، ناهيك عن مؤسسة القضاء إذا كانت فاسدة ومتواطئة مع السلطة. وفوق ذلك قدرة السلطة على المناورة لفترات طويلة (النفس الطويل)، والصبر لسنوات في المتابعة القانونية والقضائية لإنهاك الصحفي. ربما تدرك السلطة أنها لن تسجن الصحفي في نهاية المطاف، لكن يكفي أن تقحمه في دوامة المحاكم، ومتابعة المحامين، والانتظار لساعات في جلسة محكمة قد تؤجل. وإذا ما تخلف عن الحضور، جلبته المحكمة بالسلطة القهرية. يستمر الأمر لأشهر وربما لأعوام، ينشغل فيها الصحفي عن عمله الحر، ويدرك في أعماق نفسه أنه لا طائل من المساس بالخطوط الحمراء أو الاقتراب من السلطة وتجشم عناء التوتر، وهواجس الإدانة.
أحد الصحفيين أخبرني أن النائب العام حرك ضده في يوم واحد 4 دعاو قضائية مختلفة. أما صحفي آخر فقد رفعت ضده السلطة عدة قضايا في مدن مختلفة وبعيدة يتطلب التنقل بينها سفرا في الطائرة. لك أن تتخيل كيف يمكن أن يواجه الصحفي ملاحقات مرهقة تتطلب جهدا قانونيا، واستنزافا ماديا، وقبل هذا وذاك ضغطا نفسيا. يخبرني أحدهم أنه وصل إلى حالة نفسية يتمنى فيها أن ينهي حياته خاصة عندما اقتربت الملاحقات من أسرته. العيش مع ترقب السجن، أو مضايقة العائلة أعباء نفسية تزعزع من قدرة الصحفي على الصمود لفترة طويلة. يصبح الصحفي وحيدا في مواجهة آلة تمتلكها الدولة، وإمكانيات كبيرة لإنهاك الصحفي، وإخضاعه في نهاية المطاف.
تحولت السلطة إلى أساليب جديدة للتضييق على الصحفيين دون اقتراف ما يمكن أن يضعها في موضع المخل بحرية الصحافة وحقوق الإنسان.
الأسلوب الثاني:
تتعقب السلطة الحياة الشخصية للصحفي. تتجسس على هاتفه، وعلاقاته الخاصة لاستخدامها ضده إذا ما لزم الأمر. تم ملاحقة صحفيين بتهم جنسية انتهت بسجنهم. تهمة اغتصاب أو تحرش أو علاقة غير مشروعة (لنقل تهمة مفتراة لأن الصحفي غير منزه) بحسب قوانين البلد. إذا لم تتمكن السلطة من الضغط على الطرف الأضعف (الفتاة)، فإنها تمتلك القضاء الذي سيدين الصحفي رغم عدم كفاية الأدلة لو كانت المحاكمة أمام قضاء نزيه ومستقل. يكفي أن يتم اغتيال سمعة الصحفي والتشهير به عند إثارة قضية ما، يساعده الجمهور الذي تسعفه شبكات التواصل الاجتماعي اليوم بمحاكمته أو إعدامه إعلاميا دون أخذ أي اعتبار لقرينة البراءة، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
في بعض الدول تجرّم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. لكن في الواقع، تغض السلطة الطرف عن هذه العلاقات إذا ما تمت بالتراضي. لماذا إذن تسن قوانين وتشريعات تجرم هذه العلاقات في مجتمع منفتح؟ تفعّل السلطة هذه القوانين وتستخدمها لاستهداف خصومها إذا لزم الأمر كي يبدو إسكات الصحفي قانونيا. والغريب أن المجتمع الذي يعرف – وربما يتقبل – العلاقات الخاصة، يصبح رافضا لها ويدينها إذا أتت في إطار المحاكمات وتم التشهير بالصحفي في منصات إعلامية تخضع للسلطة بالدرجة الأولى. تحدثت إلى صحفية استدعاها جهاز الأمن في بلدها ملمحا إلى علاقة خاصة مع صديق في إطار التعارف ليس إلا. لا تعرف الصحفية كيف يمكن أن تستخدم السلطة أي صور أو محادثات خاصة أوهمتها بالاطلاع عليها نتيجة المراقبة الدائمة والتجسس. في مجتمعها المحافظ، قررت الصحفية الزواج فورا خلال فترة قصيرة لقطع الطريق على السلطة، ومنعها من تشويه صورتها رغم أنها لم تقترف أي فعل ينافي عرف المجتمع أو القانون. اقتحام الحياة الخاصة بات وسيلة سهلة، ومقبولة اجتماعيا لإسكات الصحفي وتخويفه.
الأسلوب الثالث:
تسيطر الدولة على نقابة أو مجلس الصحفيين من خلال من يحق لهم الانتخاب، والذين يعملون غالبا في وسائل إعلامية تابعة للدولة، رغم أنها يجب أن تكون وسائل تنظيم ذاتي مستقلة عن أي سلطة. تستغل السلطة تعريف النقابة أو المجلس لمن يحق له مزاولة المهنة والحصول على بطاقة الصحفي. كثير من الصحفيين يمارسون الصحافة في مؤسسات معروفة أو يعملون مراسلين صحفيين لمؤسسات عالمية معروفة، لكن لا تنطبق عليهم شروط النقابة التي تعنى بالصحافة المحلية. تستغل السلطة هذه الثغرة لملاحقة الصحفيين “المشاغبين” بتهمة انتحال صفة صحفي لأنه غير مسجل في النقابة. وهي ملاحقة لا تتم عادة إذا ما التزم الصحفي بالخطوط الحمراء والسقف المحدد سلفا. ورغم أن بعض قوانين المطبوعات والنشر تمنع توقيف أو سجن الصحفي إلى حين محاكمته، إلا أنها تستخدم هذه الثغرة للتضييق على الصحفي بتهمة بعيدة كل البعد عن الإشكالية الحقيقية. رغم أن النقابات أو المجالس لها الحق في تنظيم المهنة، إلا أنها بسبب بعض قوانينها وتدخل السلطة تترك صحفيين حقيقيين فريسة سهلة للسلطة.
تتعقب السلطة الحياة الشخصية للصحفي. تتجسس على هاتفه، وعلاقاته الخاصة لاستخدامها ضده إذا ما لزم الأمر. تم ملاحقة صحفيين بتهم جنسية انتهت بسجنهم.
الأسلوب الرابع:
غادر بعض الصحفيين بلدانهم نتيجة التضييق على الحريات الصحفية إلى مؤسسات في دول أخرى بهدف تجنب المتاعب، والرغبة في ممارسة الصحافة بالحد الأدنى من أخلاقيات المهنة، وبسقف أكثر ارتفاعا مما رسمته سلطة بلادهم. عند عودة الصحفي إلى بلاده لزيارة عائلته أو قضاء إجازة أو لمجرد متابعة معاملة رسمية مثل استخراج شهادة حسن السيرة والسلوك، يتم استدعاؤه عند الوصول إلى المطار لمراجعة جهاز الأمن أو المخابرات. في أغلب الأحيان لا يتجاوز الأمر مجرد حوار عاديّ وقصير وربما بعض الأسئلة لتحديث البيانات. لكن يكفي أن تخبرك السلطة أنك تحت المراقبة، ويمكن أن تطالك إذا لزم الأمر. وسيلة لإطالة أمد الرقابة الذاتية، والمحافظة عليها حية داخل عقل الصحفي عندما قرر أن يتخلى عنها بمجرد ختم جواز سفره ومغادر البلاد. الرسالة مفادها أن يتجنب الصحفي ما يمكن أن يوصف بأنه “إساءة” لبلده في المؤسسة التي يعمل بها، بل أن يشكل عامل ضغط صحفي ضد أي تغطية يمكن أن تمس السلطة أو “سمعة” البلد “النظيفة” في نظر السلطة. بعض الصحفيين الذين مارسوا ما تمليه عليهم ضمائرهم ومهنتهم، وجدوا أنفسهم في دائرة التخوين والإساءة لسمعة البلد باسم الوطنية. يجب السكوت عندما يتعلق الأمر بالبلد حتى لو انتهكت السلطة حقوق الإنسان لأن هذا شأن داخلي، وغسيل السلطة لا يجب أن ينشر على الملأ. يجب على الصحفي أن ينأى بنفسه عندما يتعلق الأمر بخبر صحفي يمس بلده لأنه في نهاية المطاف سيعود، ويواجه السلطة التي لديها ذاكرة قوية لا تنسى ولا تسامح.
لا تكتفي السلطة بالطاعة. يجب إخضاع الصحفي وإذلاله إذا لزم الأمر.
الأسلوب الخامس:
إذا كنت خارج الوطن، ستعود – على الأرجح – يوما ما، أما الصحفيون المقيمون، فيتعرضون للاستدعاء الدائم من قبل أجهزة الأمن بشكل غير قانوني، وبصورة تبدو ودية. في بعض الدول، كانت تقتصر الاستدعاءات على الصحفيين الذكور بحكم طبيعة المجتمع. اليوم تجرأت السلطة على الصحفيات في تغير ملحوظ لسلوكها الأمني. تقول صحفية أنتجت تحقيقا عن موضوع متعلق بأحد أشكال الجريمة إنها استدعيت من قبل أجهزة الأمن، وتعرضت للتهديد رغم أن موضوع التحقيق ليس سياسيا. “التحقيق يشوه سمعة البلد لأنه نشر في صحيفة عربية”! يمتد الأمر إلى تمرير رسائل للصحفية عبر أصدقاء أحيانا وأقارب أحيانا أخرى كي تتيقن أن الأمر بات استهدافا لمحيطها الاجتماعي وليس لها فقط. وهذا عامل ضغط إضافي من هذا المحيط لتجنب الدخول في المتاعب. ستفكر الصحفية مليا في المرات القادمة قبل الخوض في أي تجربة جديدة، لأن تبعات العمل لم تعد شأنا خاصة.
الأسلوب السادس:
لا تكتفي السلطة بالطاعة. يجب إخضاع الصحفي وإذلاله إذا لزم الأمر. في الوقت الذي تلاحق السلطة بعض الصحفيين أو تسجنهم، تقيم حفلات التكريم والاحتفاء الوهمي بالصحفيين. وسيلة غير مباشرة لشراء الذمم وتقريبهم من مجالها أو على الأقل تحييدهم. “طعمي الفم تستحي العين”. وبشكل أدق “طعمي الفم يستحي اللسان”، وربما يسكت إلى الأبد. إنه مثل شعبي سائد عن تأثير السلطة على الصحفيين من خلال إغداق الهدايا واللقاءات الخاصة، ومنح السفر. لا يريد أن يخسر بعض الصحفيين هذه الامتيازات أو الإساءة لأصحاب النعمة. يقول صحفي تعرض في السابق للاعتقال إن أسرته تعرضت لحادث سير مفجع. علمت السلطة بالحادثة وتواصل مكتب الرئيس مع الصحفي لعلاج الأسرة، التي لا يشملها التأمين الصحي، على نفقة الدولة. أمام كارثة إنسانية قبل الصحفي منّة من الرئيس، ما كان يجب أن يكون حقا أصيلا لكل مواطن إذا تحققت العدالة الاجتماعية. بعد العلاج المكلف جدا، اتصل مكتب الرئيس بالصحفي: ألا تريد أن تشكر الرئيس؟ رتبت زيارة مذلة للصحفي إلى مكتب الرئيس. تم دفع تكاليف العلاج: سيصمت الصحفي إلى الأبد.
ليست خاتمة
في حقيقة الأمر، أساليب إنهاك الصحفيين وإخضاعهم كثيرة لا تنتهي. قديمة جديدة مادامت السلطة مستبدة تخشى من حرية الصحافة، وتسعى من خلال سيطرتها على الصحافة إلى السيطرة على الرواية السائدة في المجتمع، وستر الانتهاكات والفساد.
يتحدث جورج أورويل على لسان أبطال روايته 1984، إذا ما أراد إنسان أن يفرض سلطته على إنسان آخر “يجعله يعاني”. الطاعة وحدها ليست كافية، السلطة هي إنزال الألم والإذلال بالآخر.
معهد الجزيرة للإعلام