نوا زافاليتا
ترجمة: سحر وفقا
ما إن انطلقت فعاليات كأس العالم لسنة 2022 حتى تهاوت كل الأساطير والصور السلبية التي كانت تروج عن قطر وعن الثقافة الإسلامية. لقد استطاع المشجعون الأرجنتينيون والمكسيكيون والمغاربة الاحتفال بأهداف فرقهم بخلع قمصانهم داخل الملاعب، تاركين صدورهم عارية، صادحين ملء حناجرهم، دون أن يتم جلدهم في الساحة العامة للكورنيش أو الويست باي (منطقة الخليج الغربي)، كما تكهن نذيرو الشؤم. وقد نقلت محطات التلفزيون والمنصات الرقمية الأرجنتينية والإسبانية والإكوادورية والبرازيلية والمكسيكية والكوستاريكية فيديوهات انشرت كالنار في الهشيم الاحتفالات الشعبية والكرنفالات الأصلية التي أطلقها مشجعو بلدانهم على امتداد شواطئ كتارا وفي جنبات الأزقة الصاخبة لسوق واقف، كما في وسط الدوحة والدروب الجديدة والتجارية لمدينة لوسيل.
أما سيلفيات المشجعين التي تجمع بين القادمين من أمريكا اللاتينية والمسلمين، وبين العرب والأفارقة، فقد أمطرت الفضاء الرقمي، وشكلت صدمة ثقافية كبيرة بالمفهوم الإيجابي للكلمة؛ كما كانت فرصة لتبادل الخبرات يجب الحفاظ عليها على المدى البعيد. سيكون علينا حضور العديد من بطولات كأس العالم حتى يتسنى لنا تثمين هذه التجارب؛ فمن النادر رؤية المسلم الأكثر تدينا، وهو يرتدي قميص الرقم 10 الذي يحمله ليونيل أندريس ميسي، ويلوح بعلم الأرجنتين مثلا، أو مشاهدة تاجر عربي في سوق واقف اسمه محمد مرتديا قميص “تشاكي” لوزانو.
لقد استطاع المشجعون الأرجنتينيون والمكسيكيون الاحتفال بأهداف فرقهم بخلع قمصانهم داخل الملاعب، تاركين صدورهم عارية، صادحين ملء حناجرهم، دون أن يتم جلدهم في الساحة العامة للكورنيش كما تنبأت بعض وسائل الإعلام.
كنا نتخيل أننا أمام دولة التحريم والرقابة والقمع، وأن المنع يطال شرب الجعة وإلقاء نظرة استلطاف اتجاه امرأة، بل وحتى استنشاق الهواء. بيد أن الواقع غير ذلك تماما، فقد استقبلتنا دولة قطر بأذرع مفتوحة وبثقافتها المستجدة وبكثير من الإخاء؛ ومن قام بجولة داخل أروقة متحف قطر الوطني سيدرك كنه قولي.
وستخلد الفيديوهات الواسعة الانتشار لبعض الأرجنتينيين وهم ينشدون بصوت واحد: “يا شباب، ها قد ثار حماسنا مرة أخرى” فيما يشبه نداء حرب أطلقوه وهم على متن عربة غولف يقودها مسلمان اثنان بمتعة كبيرة، لكن تبدو عليهما علامات الحيرة والخوف من حركية العربة التي تتراقص على نحو خطير ينذر بقرب انقلابها. ناهيك عن الفيديو الذي يوثق لمكسيكيين في سوق واقف وهم يحملون عربيا ويرفعونه عاليا، في محاكاة للعرف الاحتفالي للأعراس الذي يقضي بأن يشبك أصدقاء العريس أيديهم ليستلقي عليها العريس ثم يلقون به في الهواء. كان لي بدوري نصيب من الدهشة وأنا أحضر مباراة المكسيك وبولونيا في الملعب 974، حيث فوجئت بطفلة عربية تطلب مني قناعي الشخصي للري ميستيريو، حتى يتسنى لها التقاط صورة للذكرى مع أسطورة المصارعة المكسيكي. علاوة على السعودي الذي كان يسجل فيديو له على إنستغرام وهو يتعلم نطق عبارة “اللعنة على منتخب كلوب أمريكا” باللغة الإسبانية، وهو أحد أكثر الأندية المكسيكية نبذا في أمريكا الشمالية، وقد تعالت كثير من الضحكات من حوله. وكما قال عازف الروك المكسيكي، أليكس لورا، فالأحجار تلتقي عندما تدور، وهنا في الدوحة ووسط الصحراء التقت ثقافتان مختلفتان وتعانقتا في تآخ ومودة.
أما الوجه الآخر للعملة، فقد كان المشهد الفريد للسياح وهم ينتظمون في طوابير ضخمة لطلب شوارما أو دجاج كورما أو بوراتا أو سمك وغيرها من الأطباق العربية والهندية والشرقية مما يتعذر على الثقافة الغربية إدراكها، لكنها سرعان ما تتفتق عن خليط من المذاقات الممتعة عند تناولها. وبشيء من حنين الذوق انتشرت على الصفحة الفيسبوكية الموسومة بـ”مكسيكيون متجهون لقطر” تعليقات كثيرة من قبيل: “لم يخطر بالبال أنهم نهمون لتناول الشوارما”. في حين حصدت الأرجنتين نجمتها الثالثة في عقر الصحراء العربية على حساب فرنسا المقاتلة، وقد سمعتُ أصواتا صحفية من أمريكا اللاتينية تؤكد على أن أفضل نهائيات كأس العالم قد لعبت يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في لوسيل. في نظري، هذه تصريحات مبالغ فيها، لكنني أجزم أنها أكثر النهائيات دراما وحماسا، الأكثر عناء والأكثر بثا ومشاهدة في العالم بأسره، لكنها ليست الأفضل حتما. فمثل هذه التصريحات من شأنها أن تثير حفيظة المكسيك سنة 1986، جنوب أفريقيا في 2010 أو غيرها من بطولات كأس العالم التي نظمت على مدى نصف قرن. وبخلاف ذلك، فأنا أعتقد أنها أفضل نسخ كأس العالم على مر التاريخ: 64 مباراة في ثمان ملاعب مختلفة حيث تم ترشيد العروض والأهداف، اللهم بعض الاستثناءات. فقد رصدت تجهيزات من الدرجة الأولى وتغطية لفعاليات المونديال على قنوات الفيفا ومؤسسات إعلامية قطرية على المباشر وكذا التغطية التي حظيت بها بعض المهرجانات الشعبية التي تلت كل مباراة.
وقد حظيت وسائل الإعلام بامتيازات مرئية وسهولة في الوصول للملاعب: ولوج سريع من ممرات الملاعب للمقاعد المحددة، ماسحات ضوئية فعالة حالت دون نسخ أو تزوير تذاكر المباريات، تشوير دقيق ليجد كل مشجع المكان المخصص له، في أجواء استثنائية لكل ملعب على حدة.. صحيح أنه صادفتنا بعض الحجارة على الطريق والمسارات الماراثونية بين الملاعب ومحطات المترو والباص التي كان يمكن تجويدها عبر لوجيستيك إدارة المرور القطرية، لتصل المركبات في الوقت المحدد ولتكون أكثر فاعلية، وأن يتم تطويق المتطوعين لتجنب الطوابير الثعبانية والملتوية للوصول إلى المترو، الذي يصادف أنه فارغ. وحسب شهادة ليو نولي، وهو صحفي في جريدة لاجاسيتا دي توكومان، وهي الأكثر تأثيرا في منطقة شمال الأرجنتين، وبعد متابعته لتغطية السقوط المرير لمنتخب لأرجنتين في مواجهة السعودية وصولا إلى مباراته التي تحبس الأنفاس ضد فرنسا، فقد أكد أن اللوجستيك الذي توفر لوسائل الإعلام كان من الروعة بمكان وأن الظروف الجغرافية لقطر سهلت عمله. يقول: “لقد كان كأس عالم في متناول اليد. وهو ما سيخلد في أذهاننا نحن الصحفيون. سينعقد المونديال المقبل في ثلاث دول عظمى. ومع ذلك أعتقد أن التنظيم في قطر لم تشبه شائبة، توفرت لنا كل وسائل الراحة والتسهيلات اللازمة للقيام بالمهام المنوطة بنا.. سيكون من الصعب تكرار ذلك”.
“سينعقد المونديال المقبل في ثلاث دول عظمى. ومع ذلك أعتقد أن التنظيم في قطر لم تشبه شائبة، توفرت لنا كل وسائل الراحة والتسهيلات اللازمة للقيام بالمهام المنوطة بنا. مونديال قطر سيخلد بأذهاننا”.
لخص صديق إسباني الأمر على أحسن وجه قائلا: “لم يعتقل ولا إنجليزي واحد خلال المونديال، أظن أن منع الكحول في الملاعب كان إجراء حكيما”. والحال أن الكحول كان متاحا للأجانب مع وجود شرط جزائي يسمى “ضريبة الخطيئة”، حيث يسمح للمكسيكي والإسباني مثلا شرب الخمر شريطة دفع 15 دولار مقابل كل جعة. أكيد أن هناك من سيتذمر بحجة أن مونديال قطر كان الأغلى والأسوأ في التاريخ، لكن إن نحن قمنا بتقييم الفرجة والسِلم الاجتماعي ووضعناهما فوق اعتبارات الرذيلة، فهذه النسخة كانت الأفضل بدون منازع. كنت أؤرخ ليوميات المونديال على فيسبوك، وبعض التعليقات الساخرة لزملائي كانت توصي بعدم الخروج عن السيناريو الغربي لئلا أجلد هنا. ليس هنالك كذبة أكبر من هاته. فعبر منصة غوغل للترجمة تمكنت من الانخراط في محادثات شيقة عن كرة القدم، وعن الطبخ والسياحة مع عرب ومسلمين، كما ظفرت بعديد من الصداقات هنا.
كنت أؤرخ ليوميات المونديال على فيسبوك، وبعض التعليقات الساخرة لزملائي كانت توصي بعدم الخروج عن السيناريو الغربي لئلا أجلد هنا. ليس هنالك كذبة أكبر من هاته.
فازت الأرجنتين بكأس العالم، وكما لو أننا بصدد مشاهدة أطوار فيلم، فقد نقلوا مباراة النهاية لأقصى حدود الإثارة. لقد فعلها ليونيل أندريس ميسي، وهو الذي كان لديه مستحقات عالقة مع مواطنيه، مذكرا العالم أن الفوز بكأس العالم يتأتى عبر تسجيل الأهداف، وبذلك قاد فريقه إلى المجد.
لقد لقنتني دولة قطر درسا مهما، ففي الصحافة يجب تحري صحة المعلومات. سبق للكولومبي فيليبي ريستريبو بومبو أن قالها: “إذا أخبرتك أمك أنها تحبك، تحقق من ذلك”. وهذا بالضبط ما قمت به، فقد قدمت إلى قطر للقيام بتجربة ميدانية وللتحقق بنفسي من مجريات المونديال بكل التجارب التي تنطوي عليها، وسأغادر وأنا مندهش بشكل إيجابي. ومن جهتي لم يبق لي غير شكر دولة قطر وأن أتمنى أن تتمكن من استضافة الألعاب الأولمبية قريبا.
“لقد لقنتني دولة قطر درسا مهما، ففي الصحافة يجب تحري صحة المعلومات. سبق للكولومبي فيليبي ريستريبو بومبو أن قالها: إذا أخبرتك أمك أنها تحبك، تحقق من ذلك”.
معهد الجزيرة للإعلام