بسام غبر
إنّ متطلبات ممارسة صحافة البيانات، بالمقام الأول، تتمثل بالقدرة على إيجاد صيغة لدمج البيانات في قصة صحفية، وتحويل بيانات مجردة إلى قصص قيمة، يمكن فهمها والاهتمام بها. وهذه الصيغة تتمحور حول الفضول والتفكير النقدي، من خلال طرح أسئلة لتقديم قصة دقيقة وواضحة.
ويدفع التفكير النقدي الصحفي إلى أن يعتاد على التعمق في البيانات، والبحث عن تفاصيل حيوية، وأشياء كامنة لا يراها الآخرون، وطرح أسئلة عميقة ومثيرة للتفكير، تصل بك إلى تفسيرات تؤدي إلى رؤى قيمة.
الصحفي القادر على إثارة الأسئلة حول البيانات، واستجوابها بطريقة نقدية، سيتمكن من قراءة تفاصيلها، والكشف عن العلاقات المتبادلة، والروابط المتداخلة فيها، فتأتيه الإجابات على شكل نتائج واستنتاجات، تمكنه من رواية قصص بياناتية ذات جدوى، يسهل فهمها واستيعابها، بل والاهتمام بها.
إنّ العمل على قصة في صحافة البيانات، يبدأ بأحد النهجين التاليين: إما أن تكون لديك فكرة وتحتاج إلى بيانات، أو بين يديك مجموعة بيانات وتريد استخلاص قصص منها وروايتها، وفي الحالتين تحتاج إلى ممارسة التفكير نقديًّا وطرح الأسئلة حول البيانات، والتعامل معها كمصدر بإجراء مقابلة معها، فما تبحث عنه في البيانات، يخبرك بالطريقة التي ستفسر بها. ويمكن ممارسة ذلك وفق الآتي:
تحديد فكرة رئيسية
إنّ الانطلاق من فكرة رئيسية (تساؤل، فرضية، مشكلة… إلخ) يساعدك على ضبط مسار القصة، وإرشادك نحو طرح أسئلة صحيحة لاستجواب البيانات واستنطاقها، لاستخلاص قصص ذات معنى.
ستتمكن من تحديد هذه النقطة، بقيامك بعصف ذهني وتسأل نفسك: “ماذا أعرف عن هذا الموضوع؟، وما يجب أن أعرف؟”، وتبتكر أفكارًا عن الاتجاهات التي يمكن أن يذهب إليها الموضوع، وكيف يمكن أن يؤدي إلى إثارة الأسئلة، حتى تشعر بنفسك وأنت تقول: “أصبح لدي فضول أكثر حول هذا الموضوع وهذه البيانات، وهذا يقودني إلى الاتجاه الذي يجب أن أسلكه”.
تعرّف جيدًا على البيانات
من الضروري الحصول على جذر البيانات ومصدرها، والتأكد من دقتها وصحتها، وهذا هو لبّ الهدف الأسمى الذي يبتغيه صحفي البيانات، المتمثل برواية قصة بياناتية صادقة ودقيقة للجمهور.
فقبل الشروع للتعامل مع مجموعة بيانات، يجب التأكد ما إذا كانت هذه البيانات جيدة ويمكن الوثوق بها، والتشكيك بها والتحقق من التحيزات، وطرح أسئلة عن هوية مصدرها: من قام بجمعها؟ ولأي غرض، وكيف تم جمعها؟، فموثوقية البيانات تعتمد في جوهرها على جودة جمعها. فحري بالصحفي أن يدقق في مصدرها، ويتعرف على منهجية جمعها، وتقييم مدى ملاءمتها واستنادها على مقاييس ودلالات إحصائية.
وعند فحص البيانات، ضع في اعتبارك ما إذا كانت البيانات تتضمن اتجاهات واضحة أو قيمًا متطرفة، وخالية من قيم غير منطقية أو أخطاء فنية ولغوية، وعدم وجود أجزاء مفقودة، وهكذا. لتحصل على إجابات تكشف ما تبرزه البيانات وما تخفيه، وتتعرف على العيوب الموجودة في البيانات، وتحديد ما إذا كانت تتطلب تصفية وتنظيفًا.
السياق
يتطلب طرح الأسئلة المناسبة للخروج بقصص جيدة، ليس فقط القدرة على التشكيك في البيانات، ولكن فهم سياقاتها، فقد تكون مجموعة البيانات التي تتعامل معها، محدودة بالواقع الذي تتحدث عنه، أو تأتي في إطار زمني مختلف، مما تتسبب بالتأثير في الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها. فمثلًا عند النظر إلى قاعدة بيانات حول حالات كوفيد 19 في بلدان العالم، وظهرت الصين بعدد منخفض بالحالات النشطة مقارنة بدول أخرى، هذا لا يعني أن الصين هي أفضل حالًا من بقية الدول، لوجود سياق بأنها أول دولة ظهرت فيها حالات الفيروس.
ويأتي السياق بطرق مختلفة، فأحيانًا تحمل البيانات سياقًا فيها، وأحيانًا قد تحتاج إلى وضع سياق لها، للتمكن من قراءتها وفهمها، فالبيانات تعني زاوية أخرى بمجرد وضعها في سياق مختلف، أو ربطها مع مجموعات بيانات أخرى. فمثلًا بيانات الطقس والتغيرات المناخية مثيرة للاهتمام، لكنها ستصبح ذات جدوى إذا أضفت لها سياقًا كتأثيراتها في صحة المجتمع، أو انعكاساتها على مخيمات النزوح، وهكذا.
ولا يمكن فهم البيانات من دون إدراك ومعرفة عوامل مرتبطة بالثقافة والسياق العام للواقع الذي تتحدث عنه قصتك. ولقد أحسن جوناثان ستراي، الأستاذ في كلية كولومبيا للصحافة، عندما وصف المجتمع والصحفي بأنهما جزء من السياق الذي يخلق المعنى، لكون كل مجتمع لديه احتياجات معينة تشكل ما يستحق النشر، كما أنّ للصحفي اهتماماته المحددة.
إنّ خلو بياناتك من سياقات مناسبة، سينتهي بك المطاف إلى قصص لا معنى لها، وهذا ما ذهب إليه عالم البيانات سيث ستيفنز في كتابه “الكل يكذب”، بقوله: “عندما يعلم الناس أنني كاتب وعالم بيانات، يشاركونني حقائق، كثيرًا ما أجدها بيانات مملة، بل وخاوية من الحياة، لا أجد فيها قصة تستحق أن تروى”.
طرح الأسئلة الجيدة
عند النظر إلى مجموعة بيانات، قد لا تعرف ما تبدأ السؤال به، ومن الجيد البدء بأسئلة صغيرة في إطار فكرتك الرئيسية، والتفكير بالأسئلة التي يمكن أن تجيب عنها البيانات. ويمكن للنقاط الآتية أن تمنحك أفكارًا حول أسئلة يمكن طرحها:
التغير في الزمن: كم زاد ________ /انخفض؟
التوزيع الجغرافي: أين يتركز ______؟
الارتباط والعلاقة: كيف يؤثر ______ في _____؟
المقارنة: ما أعلى/أدنى ________؟
واسأل باستمرار عن الأسباب والكيفية، “لماذا، كيف”، فعادة إجابة واحدة لا تكفي. وكن حذرًا عند تحديد العلاقة وتفسير الأسباب، فالارتباط لا يعني السببية، أي أن وجود علاقة بين متغيرين لا يعني أن أحدهما تسبب بالآخر.
إنّ طرح الأسئلة الجيدة، يمكنك من اختيار المعادلات الحسابية المناسبة، التي تساعدك على فهم البيانات واكتشاف الأنماط والاتجاهات التي ستأتي منها قصتك، ويمكنك الاعتماد على أساسيات الرياضيات التي تعرفها منذ سنوات دراستك الأولى، كالجمع، الطرح، الضرب، والقسمة، وعمليات حسابية بسيطة ربما قد قمت بها في تغطياتك الصحفية، وأبرزها:
- المعدل
يستخدم المعدل في قياس حجم شيء إلى شيء، ويمكن الحصول عليه بعملية القسمة، مثلًا معرفة معدل الجرائم في بلد ما يكون بقسمة عدد الجرائم على عدد السكان.
لكن عند المقارنة بين البلدان، لابد أن هناك بلدًا عدد سكانه أكبر من بلد آخر، وحتى تكون المقارنة عادلة تحتاج إلى عملية حسابية تنسب عدد الأحداث إلى عدد السكان، وهي احتساب معدلات لكل 1000 أو 10 آلاف، أو 100 ألف شخص، حسب مدى انتشار موضوع القياس، فمثلًا مقارنة حجم الجرائم بين البلدان، يكون بصيغة: قسمة عدد الجرائم على عدد السكان ضرب 100000، ليتم الحصول على حجم الجرائم مقابل كل 100 ألف شخص في كل بلد.
وبالتالي فإن استخدامك لمثل هذه العملية، تساعدك للوصول إلى استنتاجات، قد تكتشف بها تفاصيل جديدة، وتفتح لك زوايا تمكّنك من قصص أكثر عمقًا.
- النسب المئوية
هي عملية غالبًا ما تستخدم للتعبير عن جزء من الكل، ويتم احتسابها بقسمة الجزء على الكل، ضرب 100. مثلًا يمكنك معرفة نسبة الشفاء من عدد الإصابات بكوفيد 19 في بلد ما، بقسمة عدد حالات الشفاء على عدد الإصابات وضربها في 100.
- مقدار ونسبة التغير
يمكنك من معرفة مقدار التغير الزمني لعنصر محدد، وذلك بطرح القيمة الجديدة من القيمة القديمة، مثلًا (عدد سكان تونس في 2022 – عدد سكان تونس في 2021 = مقدار التغير في سكان تونس خلال عام).
وإذا أردت معرفة نسبة هذا التغير، فإن احتسابها يكون عبر إجمالي طرح القيمتين قسمة القيمة القديمة ضرب 100، هكذا (عدد سكان تونس في 2022 – عدد سكان تونس في 2021) ÷ عدد سكان تونس في 2021 × 100.
الزميلان لؤي هشام ومعتز سيد، استخدما المقارنة بالتغير عبر الزمن، كمحور رئيس لتحقيق مياه مصر: نصف الكوب الفارغ، وتمكنا من معرفة زيادة نسبة السكان غير المخدومين الذين لا يحصلون على مياه، ونسبة التغير في استخدامات المياه وفاقد الشبكات، وزيادة ونقصان المحطات السطحية ومحطات الآبار.
- المتوسط الحسابي
المتوسط الحسابي هو القيمة التي تتمركز حولها معظم القيم، ويعطي قاعدة لمقارنة قيمتين أو متغيرين، ويمكن حسابه عن طريق قسمة مجموع القيم على عددها. ويمكنك من خلاله، الخروج بقصص مهمة، كما فعلت الزميلة صفية مهدي في تحقيقها التعليم في اليمن: فاتورة الحرب والرسوم ضحاياها أطفال المدارس بالانطلاق من فكرة الرسوم غير القانونية التي تصل إلى 8000 ريال كمتوسط سنوي عن كل طالب يمني.
وتنبه إلى أن المتوسط لا يعد استخدامه مناسبًا إذا كان هناك تفاوت وقيم مختلفة، ما يجعله لا يعبّر عن القيمة الوسطى للبيانات بدقة، وفي هذه الحالة يكون “الوسيط” مقياسًا مناسبًا للحصول على القيمة الوسطى للبيانات بعد ترتيبها تصاعديًّا أو تنازليًّا.
وهناك الكثير من العمليات الحسابية التي يمكن أن تساعدك على فهم البيانات واكتشاف أنماطها، لكن تذكر بأن من يقودك إلى نظرة مختلفة ونقاط غير اعتيادية، هو تفكيرك وزاوية طرحك.
تحدث إلى مصادر بشرية
إذا مررت بالخطوات السابقة، وكانت البيانات لا تستوجب تفسيرات إضافية، فقد انتهى عملك وحصلت على القصة. ولكن غالبًا قد تكون هناك بعض النتائج التي لا تستطيع تفسيرها إلا من خلال الخبراء والمختصين، الذين يقومون بتفسير أعمق ورؤية أكثر دقة، أو عبر الحديث إلى الأشخاص الذين عاشوا القصة، أو عن طريق استجواب ومساءلة أصحاب المصلحة والمسؤولين، عن نتائج توصلت إليها تتعلق بسياساتهم.
كن فضوليًّا دائمًا وأطرح الأسئلة باستمرار تجاه البيانات، وستكون قادرًا على تقديم نهج منظم لقراءة وتفسير البيانات، والخروج بقصة جيدة وذات معنى. وبالتالي صحفيًا بياناتيًا ماهرًا.
شبكة الصحفيين الدوليين