إيليا توبر
خصصت صحيفة الإيكونوميست الأسبوعية البريطانية العريقة صفحتها الأولى للانتخابات التركية المقبلة، التي وصفتها بالانتخابات الأهم في عام 2023. لكن الإيكونوميست نشرت أيضًا دعوة للتصويت، ونشرت العبارة التالية: “أردوغان يجب أن يرحل”، وهو ما صدمني لأنه يخالف أخلاقيات الصحافة.
“ضوء وكُتّاب” هما أساسا الديمقراطية، كما اشتُهر عن رئيس الوزراء الإسباني أنتونيو ماورا، أنه قال في العقود الأولى من القرن العشرين، إذ يعني بالـ “كتاب” موظفي البرلمان الذين توكل إليهم أعمال تدوين كافة الخطابات التي يلقيها السياسيون خلال الجلسات لكي يتمكن الناس من التحقق من تنفيذ المقترحات والوعود التي يقدمها النواب المنتخبون ومحاسبتهم عليها، وهكذا فإن هذا المفهوم هو كناية عما يعرف في زماننا بالصحافة الحرة القادرة على نقل ما يحدث في حقل السياسة بدقة.
ومع وجود الكثير من الدول حول العالم التي تحكمها أنظمة ليست ديمقراطية تمامًا، غالبًا ما يجد المراسلون الصحفيون الأجانب أنفسهم وقد أصبحوا يؤدون دور الكتاب، وتقع عليهم مسؤولية تسليط الضوء على مجال السياسة وإخبار جمهورهم بما يحدث فيه بالضبط، وهذا هو الواقع، حتى في دولة ديمقراطية مثل تركيا التي يعمل فيها الكثير من الصحفيين المحليين الماهرين الذين يؤدون بالفعل هذا الدور. فرغم تصنيف تركيا المنخفض على سلم مؤشر حرية الصحافة العالمي الذي ينشر سنويًا من قبل “مراسلون بلا حدود”، إذ تحتل المرتبة 165 من بين 180 دولة، فإنه لا تزال هناك صحافة حرة في البلاد، إذ إن الصحف المعارضة الجريئة ليست بازدياد فقط، بل تباع على منصات بيع الصحف في الشوارع، ولكن قراءها قلة، إذ إن 90% من المؤسسات الإعلامية يسيطر عليها رجال أعمال مقربون من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يسعى إلى أن يعاد انتخابه، ولا داعي للإشارة إلى أن وسائل الإعلام هذه تكرر كل ما يقوله الرئيس حتى من دون التحقق من صحة تفاصيل ما قيل.
للأسف فإن وسائل الإعلام التابعة للمعارضة أيضًا لا تتحقق كثيرًا من المعلومات، وغالبًا ما تكون محاولاتها لمواجهة رواية الحكومة مدفوعة بالمشاعر عوضًا عن كونها مدفوعة بالتحليلات.
إن الحياد، أو على الأقل محاولة إظهاره، سيكون دائمًا مهمة صعبة، ولكن في المقابل، يجب على المراسلين الصحفيين الذين يؤدون مهمات قصيرة أن يكونوا دائمًا منفتحين لتغيير آرائهم عندما تتضح لهم معلومات إضافية.
وهذه هي نتيجة انقسام المجتمع اليوم انقسامًا عميقًا، بين مؤيدي أردوغان ومن سينتخبون المعارضة، إذ بالكاد تتبقى مساحة للنقاش العقلي، فأنصار الرئيس سيرفضون التشكيك في أقواله، في حين أن الخصوم لن يكلفوا أنفسهم بفصل الحقائق عن الأكاذيب في رواية يعتبرونها في جميع الأحوال دجلًا مطلقًا، وهذا بالطبع يجعل وسائل إعلام المعارضة مصادر غير ذات مصداقية في عيون من هم في المنتصف بين الطرفين، أو المتشككين.
في هذه الحالة ينظر إلى المراسلين الأجانب غالبًا على أنهم محايدون، أو على الأقل وسطاء متوازنون، حتى من قبل الكثير من الأتراك الذين لا يعلمون فيمن سيضعون ثقتهم.
عندما أغطي الحملات الانتخابية، بل حتى قبل ذلك بوقت طويل، -إذ إن الأجواء في تركيا باتت في السنوات القليلة الأخيرة بمثابة حملة انتخابية مطولة- عادة ما تطرح علي أسئلة عن رأيي الشخصي بمجرد أن أسأل المواطنين عن آرائهم. وأنا دائمًا لا أجيب إجابات مباشرة، وذلك ليس لأنني لا أريد من الناس أن يجيبوا على سؤالي بإجابات يفترضون أنني أود سماعها فحسب، بل لأنه لا يتوافق مع أخلاقيات المهنة، إذ إنني بصفتي صحفيًا، وبالتحديد صحفيًا أجنبيًا، لا يجب أن أؤثر على الوضع الذي أراقبه وأصفه.
وهذا لا يكون دائمًا يسيرًا، لأن كونك مراسلًا صحفيًا لفترة طويلة يختلف إلى حد ما عن تغطية انتخابات بصفتك مراسلًا حددت لك مهمة تؤديها مرة واحدة فقط. وبالطبع، فإنه عند الذهاب إلى دولة أجنبية لتغطية الانتخابات سيكون جميع من ذهبوا قد اختاروا مواقفهم بالفعل، حتى وإن كان ذلك من دون أن يدركوا. لذلك فإن الحياد، أو على الأقل محاولة إظهاره، سيكون دائمًا مهمة صعبة، ولكن في المقابل، يجب على المراسلين الصحفيين الذين يؤدون مهمات قصيرة أن يكونوا دائمًا منفتحين لتغيير آرائهم عندما تتضح لهم معلومات إضافية، الأمر الذي ينفي تأثرهم بالأحداث، حيث إنهم بعد أن تحسب الأصوات وتعلن نتائج الانتخابات سيعودون من حيث أتوا.
أما بالنسبة لمراسل صحفي يعمل في البلاد لفترة طويلة فإن الأمر يختلف، فربما لا يوجد “موطن” آخر للذهاب إليه، أو على الأقل لا يمكن الذهاب إلى مكان آخر من دون الدخول في تعقيدات تغيير العمل. إنني أعيش في تركيا منذ ما يزيد عن العقد، شأني شأن العديد من الصحفيين الأجانب في اسطنبول. ويمكننا نظريًا أن نتقدم للحصول على الجنسية التركية، لكن جميع الصحفيين الذين أعرفهم تجنبوا فعل ذلك، لأن أحد مزايا كونك صحفيًا أجنبيًا هو أنك أجنبي. بالطبع، جميعنا سنتأثر بما يحدث في البلاد التي نحب والتي اخترناها للعيش، وهذا لا يحمل بعدًا عاطفيًا؛ لأن انتصار هذا الطرف أو ذاك يمكن أن يجعل حياة الصحفيين جميعهم، الأتراك والأجانب، أسهل أو أصعب فحسب، بل هو كذلك أيضًا لأن كونك صحفيًا لا يعني كونك غير حساس وغير مهتم لما يحدث حولك، بل يعني أنك فقط لا تظهر هذا الاهتمام أثناء عملك، لكنك ستفهم بعد فترة وجيزة أن كلمة “عمل” تتضمن كل شيء تكتبه أو تفعله بالعلن.
أعيش في تركيا منذ ما يزيد عن العقد، شأني شأن العديد من الصحفيين الأجانب في اسطنبول. ويمكننا نظريًا أن نتقدم للحصول على الجنسية التركية، لكن جميع الصحفيين الذين أعرفهم تجنبوا فعل ذلك، لأن أحد مزايا كونك صحفيًا أجنبيًا هو أنك أجنبي.
عندما كنت في بلدي إسبانيا، اعتدت على المشاركة في المسيرات بصفتي مواطنًا لكي أؤدي واجبي بالمشاركة السياسية في نظام ديقراطي، لكنني لم أشارك في أي مسيرة في تركيا بصفتي متظاهرًا. لقد ذهبت إلى مئات المظاهرات حاملًا كاميرا في يد ودفتر ملاحظات في الأخرى، لأطرح الأسئلة وأكتب الأخبار، إلا أنني لم أهتف أي هتاف على الإطلاق، وهو أمر يحتاج في بعض الأحيان إلى ضبط للنفس.
أذكر احتجاجات غيزي في اسطنبول عام 2013، والتي شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين من الرجال والنساء، ومعظمهم من الشباب، إذ تدفقوا إلى ميدان تقسيم ليتحول اعتصام صغير لأنصار البيئة إلى مسيرة ضخمة لا يسعنا إلا أن نقارنها بثورة الطلبة في باريس عام 1968، أو ربما هكذا بدا الأمر للكثير منا ممن لم يكونوا مولودين في ذلك الوقت لكن كانت لدينا ذاكرة ثقافية لـ “باريس 68” بوصفها كانت نقطة فاصلة في السياسة الأوروبية والحركات الشبابية، وقد بدت احتجاجات غيزي تاريخية بالنسبة لتركيا كذلك، وقد كنت محظوظًا لأنني شهدتها.
ولكن أن “نشهدها” هو المهم، لأننا نحن الصحفيين لسنا جزءًا من المظاهرة، ونحن نختار ذلك، لا نرفع أعلامًا أو يافطات، ونبقي أفواهنا مغلقة في الوقت الذي يتحدث فيه الآخرون. الأمر كله يدور حول المبادئ، فإما أن تغطي المظاهرة تغطية إخبارية أو أن تشارك فيها، ولا يمكنك فعل كلا الأمرين في الوقت ذاته، وستكتشف لاحقًا أنه ليس بإمكانك فعل كلا الأمرين في آن معًا في الأوقات الأخرى كذلك لأنك إن كنت مراسلًا صحفيًا أجنبيًا، لا يمكنك أن تتجاهل هذه الجزئية لساعة واحدة أو يوم واحد.
نحن الصحفيين غالبًا ما نكون فخورين بأننا نكون على أهبة الاستعداد على مدار اليوم، وبأننا مستعدون للرد على المكالمات الهاتفية بأي وقت من اليوم حرفيًا، بل وكل شخص نقابله يمكن أن يكون مصدرًا للأخبار في المستقبل، وكل محادثة نجريها سواء كانت أثناء التسوق أو الرقص في أحد البارات، ستمثل إضافة إلى معرفتنا بالبلاد وبحدود سياق ما نكتب. فأنت لا تنفصل بتاتًا عن عملك لأن مراقبة الوقائع هو عملك، وعلينا أن ندرك أن الوقائع تراقبنا بدورها أيضًا، وأيًا يكن ما نفعله فسيكون قد تم بصفتنا صحفيين أجانب، ناهيك عن أن وظيفتنا هي أن نخبر الجمهور بحال البلاد، لا أن نخبر البلاد بما عليها أن تفعل.
هذا هو التوجه ذاته الذي أحاول أن أحافظ عليه خلال الانتخابات الأكثر استقطابًا على الأرجح في بلاد بدأت تشهد هذا الاستقطاب منذ عشرة أعوام، وبالتحديد بعد إخماد احتجاجات غيزي. بالتأكيد، أنا أدري جيدًا ما هو الحزب الذي أحب أن أراه منتصرًا لكنني لن أخبركم، بل سأخبركم بآراء الناس في كلا طرفي الطيف السياسي، وسأقدم لكم الحقائق حيال ما يجري في البلاد الآن، وسأتوقف عند ذلك.
لذلك، فإنني أعتقد أن الإيكونوميست ارتكبت خطأ في صفحتها الرئيسية، لأني أدري أن الصحف البريطانية والأمريكية لديها تقليد يتمثل بالإعلان رسميًا عن دعم مرشح واحد في الانتخابات، وربما يكون ذلك جيدًا لأن لكل صحيفة رؤيتها الأيديولوجية المحددة ولا بأس بالتعبير عن ذلك بصراحة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالممارسات الديمقراطية لدولة أجنبية، فإن توجيه مواطنيها لانتخاب أحد ما ليس بالأمر الصحيح، وذلك ليس فقط لأن التحليلات المحايدة في الصحافة الأجنبية ضرورية لأنها محايدة بالتحديد، بل كذلك لأن مثل هذه الممارسة تظهر قلة الاحترام للناخبين الأتراك، فهل هم حقًا بحاجة للمؤسسات الإخبارية البريطانية لتخبرهم بما عليهم فعله ببلادهم؟
أنا أدري جيدًا ما هو الحزب الذي أحب أن أراه منتصرًا لكنني لن أخبركم، بل سأخبركم بآراء الناس في كلا طرفي الطيف السياسي، وسأقدم لكم الحقائق حيال ما يجري في البلاد الآن، وسأتوقف عند ذلك.
معهد الجزيرة للإعلام