سمية اليعقوبي
تنمو معدلات استخدام البودكاست في المنطقة العربية، وهذا ما تظهره بيانات نشرتها جامعة نورث ويسترن ومؤسسة الدوحة للأفلام حول أعداد مستمعي البودكاست في العالم العربي حيث تشير إلى أن ثلاثة من أصل عشرة مواطنين عرب يستمعون للبودكاست، ويمثل المواطنون العرب من الفئة الأصغر سناً الأكثر متابعة للبودكاست بنسب تتراوح بين 23% إلى 33% للأعمار من 18-45 سنة بينما تقل هذه النسبة إلى 15% لمن هم فوق 45 سنة. وتظهر نتائج الاستماع المرتفعة للحاصلين على شهادات علمية بنسبة تتجاوز 36% لمن يملكون مؤهلا جامعيا وأكثر، مقارنة بما نسبته 29% لمن يملكون مؤهل التعليم المدرسي.
في المملكة العربية السعودية تتوسع شركة ثمانية لتدخل إلى مجالات وصناعات جديدة وهي مؤسسة تعتمد البودكاست صناعة أساسية (إلى جانب صناعات أخرى) وبما يقارب 13 بودكاست متعددا عوضا عن نقل المحتوى الصوتي إلى منصة يوتيوب. في شبكة الجزيرة الإعلامية تتجه الشبكة إلى التوسع في القطاع الرقمي عبر ضخ الموارد المختلفة، وأحد الخيارات المطروحة لهذا التوسع هو البودكاست إضافة لصناعة الوسائط المتعددة. في سلطنة عمان، أعلن الشهر الماضي عن نتائج جائزة مخصصة للبودكاست تهدف لتكريم المؤسسات الناشئة في هذا المجال، التي تتمتع بوسائل أكثر إبداعا وجذبا للجمهور في خطوة لدعم الاستثمار في هذا القطاع.
تأتي هذه المستجدات في الوقت الذي لا يزال تقييم البودكاست على أنه صناعة حديثة نسبياً في العالم العربي. إذ إنه منذ أعوام قليلة فقط تسلل البودكاست صناعة ومحتوى لعالمنا العربي ووجد الكثير من معدي المحتوى أنفسهم أمام فرص جديرة بالاهتمام من خلال الصوت دون الفيديو لأول مرة بما يعيد لذاكرتنا صوت العصر الذهبي للإذاعات العربية. ولكن مع هذه المرحلة من التوسع العربي في تجربة البودكاست بما يصل لمئات القنوات على منصات الاستماع المختلفة، آن الوقت لطرح التساؤلات بشأن حالة البودكاست ومناطق تمركزه الحالية وتوجيه الأسئلة بشأن السمات الملازمة لصناعته مع التركيز على أهمية البعدين السردي والاستقصائي في هذه الصناعة. في هذا التقرير أشير إلى جانبين أساسيين في التجربة العربية هما: التوسع في تجربة البودكاست الحواري، وشيوع بودكاست الجريمة، ثم أبحث في أبعاد الاستفادة من السرد والاستقصاء في البودكاست لتحويل هذه الصناعة من مجالات التأمل والترفيه إلى التأثير في القضايا التي تهم الفرد والمجتمع.
تنمو معدلات استخدام البودكاست في المنطقة العربية، وهذا ما تظهره بيانات نشرتها جامعة نورث ويسترن ومؤسسة الدوحة للأفلام حول أعداد مستمعي البودكاست في العالم العربي حيث تشير إلى أن ثلاثة من أصل عشرة مواطنين عرب يستمعون للبودكاست.
البودكاست العربي حواري بالضرورة
لم يسهم البودكاست في تأسيس اتجاهات إعلامية سمعية تعنى بالذوق والتفضيلات الشخصية فحسب، بل خلق اتجاهاته من حيث صناعة المحتوى، وقيمه ومعاييره المتباينة، واعتماده المستمر على تقنيات السرد الصوتي وما يصاحب ذلك من أدوات منهجية ومهنية لخلق القصة. في محاولة سريعة لاستكشاف محتوى البودكاست العربي في منصات نشر، سيجد المتتبع لهذا الأمر شيوع البودكاست الحواري وتسيده المحتوى الصوتي. دم تك، وبعد أمس، وفنجان، وسوالف بزنس، وغيرها من قنوات البودكاست الحواري الشهيرة تمثل نماذج لحالة التوسع في الحوار من خلال الصوت.
ثمة توق كبير لتحويل الحوارات التي رأيناها متسيدة في عالمي الصحافة والتلفزيون إلى تجارب صوتية حيث لا حدود للموضوعات والأفكار المقدمة بناء على تجارب الضيوف وأنماط حياتهم وأعمالهم المتباينة. يكتسب البودكاست في هذه الزاوية فرصة كبيرة لتقديم نفسه على أنه تجربة لأي أحد يود قول الكثير بشأن تجاربه وأفكاره ويبدو أنه خلاصة تجارب للحياة خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوعات الريادة وقصص النجاح والصعود المهني والذاتي للأفراد.
في المقابل فإنه بالنسبة لمقدمي البودكاست، يعتبر هذا النوع من المحتوى هو الأقل جهدا وكلفة؛ حيث لا يتطلب الكثير من الإعداد والمسؤوليات التحريرية والمؤثرات الكبيرة بل يقع الاعتماد بصورة أكبر على قدرات الضيف في اقتناص اهتمام الجمهور لغة وموضوعا. يشير رايان ايرلان في كتابه The Business Podcast Book إلى أن “إحدى البدايات السهلة تبدأ من البودكاست الحواري Talk Podcast وأن ذلك يعتبر بداية ناجحة للراغبين في الدخول لهذا العالم مقارنة بباقي أشكال المحتوى الأخرى، إذ لا يتطلب الأمر سوى استضافة شخص ما للتحدث عن قضية تبدو مهمة للجمهور أو ممتعة لهم في أدنى تقدير”.
في بودكاست أصوات (إحدى منتجات مؤسسة ثمانية) يناقش قضية الحالة الإنسانية والاجتماعية للنساء الآسيويات العاملات في خدمة المنازل في الخليج والمنطقة العربية.
هل يمثل الحوار تعددية الآراء؟
إن التعامل مع تطور البودكاست الحواري في الفضاء الإعلامي العربي على أنه انسجام كبير بين معدي المحتوى وهذه الصناعة القادمة من تجربة إذاعية وتلفزيونية اعتادت الحوار شكلا أساسيا للنقاش حول الموضوعات والآراء يعد مكسبا لصانعي المحتوى في الوقت الذي تتسع فيه أهمية المحتوى الرقمي وتظهر التعبيرات الذاتية نموذجا أساسيا لتقليل الاستحواذ المؤسساتي على الإنترنت. وفي العالم العربي وأمام هذا الاستقطاب السياسي والثقافي الحاد، فإننا لسنا بحاجة لصوت واحد فحسب بل يصبح جديرا بنا كصحفيين وصانعين للمحتوى أن نخلق تجربة خاصة من الصحافة الرقمية تشمل كل الأصوات والتيارات التي يخيل للمرء أنه يسمعها لأول مرة ويتساءل: أين كان هؤلاء من قبل؟ لماذا لم يصلني صوتهم؟ إن التوسع في الأصوات بصورة تنسجم مع التوسع في المصادر والعلاقات الناجمة عن صناعة البودكاست سوف يدفع بالمزيد من الاشتغال المهني على التجربة وهذا يعني أن تجربة واحدة من نوع “مقدم للبودكاست” و”ضيوف” متعددين يحاورهم هذا المقدم قد تبدو بدائية أمام طيف الأصوات التي يمكن أن تصل للبودكاست حيث مقدمون كثر ومتحاورون كثر وأصوات متعددة فيما يعرف ببودكاست النقاش Panel discussion.
في عام 2019، أغلقت نيويورك تايمز NYT en Español وهو فرع صحيفتها المخصص باللغة اللاتينية في الموقع الإلكتروني الذي اجتذب طيفا واسعا من المتحدثين بالإسبانية في الولايات المتحدة والعالم. وكان أحد الأسباب الرئيسية لذلك صعوبة العمل على تقارير نوعية خاصة بالإسبانية وضعف الاشتراكات وأسباب مالية كثيرة، وبذلك أغلقت منصة أساسية عالمية لأكثر من 80 مليون متحدث بالإسبانية رغم كل ما تشكله أصوات هذه المنطقة من تعددية وثراء ثقافي وإنساني. جراء ذلك، وفي حسابات كثيرة على الفيسبوك عبر متحدثو هذه اللغة عن استيائهم من خطوة الصحيفة التي لم تستطع بناء جمهور مخلص لها معبرين عن حاجتهم للكثير من وسائل الإعلام التي تسد الفراغ الحاصل وتغطي قضايا الصراع والهوية وقصص الناس والبسطاء الذين لا يهتم بهم أحد. وكنتيجة لتلك الفجوة، نشأت مجموعة جديدة افتراضية حملت اسم Club de Podcast Radio Ambulante وهي مجموعة بودكاست سردي تديرها مجموعة واسعة من المتحدثين بالإسبانية الذين يناقشون قضايا متعددة بينها حرية الأفراد وفهم تركيبة المدن وقضايا الجندر واللون وغيرها. كتب معهد نيمان عن تلك التجربة قائلا: “إن هذا البودكاست بمثابة تأريخ لحياة أمريكا اللاتينية والقائمين على هذا المشروع يدفعون بولاء الجمهور من أجل الاستمرارية. لقد أنشأوا نادياً للعضوية وهم يطلبون من الجميع المساهمة ماليا ومن خلال قصصهم ليستمر هذا المشروع. لقد أصبح البودكاست حالة ثقافية تضامنية لمجموعة كبيرة من الأشخاص”.
لم أكن لأستدعي هذه التجربة لولا أن هناك جانبا أساسيا فيها يدفعني للقول إن بوسع البودكاست “بقوته السردية وسهولة مروره بعيدا عن الحواجز الجغرافية كأي حالة صحفية رقمية جديدة” أن يشكل تمظهرا إيجابيا لتجمع عدد كبير من الأصوات وتمركزا جاذبا لموضوعات التعددية في التيارات بفضل انسجامه التام مع فكرة الولاء التي يصعب تحقيقها بشكل أحادي من خلال الصحف والجرائد ومنصات التلفزيون. إننا نستمع للبودكاست لكي نتتبع الاختلاف بل ونؤكد على أفكارنا ومعتقداتنا الخاصة ولكن بطرق وأساليب مختلفة وهذا ما تحمله لنا الأصوات المتعددة في البودكاست. في بودكاست أصوات (إحدى منتجات مؤسسة ثمانية) يناقش قضية الحالة الإنسانية والاجتماعية للنساء الآسيويات العاملات في خدمة المنازل في الخليج والمنطقة العربية. تبدو القضية مطروحة للنقاش والجدل منذ سنوات عدة، ولكن بالنظر لتراكم الأدوات السردية التي تقتنص حياة السيدات العاملات في ظروف اجتماعية ومهنية بالغة الصعوبة وأمام الكثير من التحديات التي تمنع اندماجهن في البلدان العربية، يسهم السرد وحده في تعميق شعورنا الداخلي بأهمية القضية وحساسيتها للمئات من العاملات المنزليات القابعات في منازل الأسر العربية.
تحدثت الصحفية لما رباح التي تعمل منتجة رئيسية في مؤسسة ثمانية ورئيسة لتحرير بودكاست أصوات حول حالة البودكاست والعلاقة التي تتشكل بين السرد والبحث عن المعلومات لنقل القضايا الاجتماعية بما يحوله من أداة للترفيه إلى أداة لخدمة نقل الحقائق والتغيير في الواقع المعيش. تشير رباح إلى أن البودكاست دائم التشكل والتطور وهو يحمل مرونة عالية ولذلك فإن التقيد بنمط متكرر في طريقة الكتابة وأصواتها لا يعد صحيحا. تقول: كمستمعة أولا وكمنتجة ثانياً أهرب إلى البودكاست لأجد هذه المساحة بالذات. إن القصص التي نختارها بالضرورة فيها نوع من الحالة الاستثنائية؛ إما في التفاصيل (مثيرة مذهلة، قصصيًا فيها سرد عظيم) أو في موقع الشخصية ضمن قضية ما (موقفها فريد، ظروفها أكثر حدّة من غيرها، لديها وجهة نظر لافتة، تقدّم للمستمع نظرة جديدة للموضوع). لكن هل نقدّم هذه القصة الاستثنائية على أنها عامّة؟ أم حالة استثنائية ضمن سياق واضح؟ لماذا اخترناها بالذات؟ ماذا نقول للمستمعين حيال الأشخاص المتأثرين بقضية ما؟ سأخبرك أن هذه الأسئلة مربكة في كلّ مرة، لا سيما في القضايا الحقوقية والحساسة. ولكن أعتقد أنّ الخروج من هذا المأزق يكون بتقديم سياق واضح وملمّ بكل التفاصيل، ووضوح موقع الشخصيات التي نختارها ضمن القضية العامة. تجنبًا للتعميم، أو تبنّي وجهة نظر أحادية.
“لا أعتقد أنّ الاستقصاء في عالم البودكاست يُحصر في كشف معلومات “خطيرة” أو “خفية” بالضرورة. أؤمن بالاستقصاء الذي يمكنه تقديم مواضيع متداولة بصورة جديدة، فيها حساسية عالية للتفاصيل، وإلمام بالسياق”.
وتتحدث لما عن تشكيل القصة بأسلوب منهجي قائلة: نبدأ عادةً بضبط القصة بناءً على بحث أولي، ومقابلات أولية مع الشخصيات. نعتمد المقابلات مصدراً أساسياً للمعلومات، ولكننا نستعين بالمواد الإعلامية المنشورة عن الموضوع مسبقًا، وبالمصادر البحثية المتوفرة من كُتب ومقالات للتحقق من المعلومات ولتوفير سياقات معرفية أكثر وضوحًا.
وتضيف: “لا أعتقد أنّ الاستقصاء في عالم البودكاست يُحصر في كشف معلومات “خطيرة” أو “خفية” بالضرورة. أؤمن بالاستقصاء الذي يمكنه تقديم مواضيع متداولة بصورة جديدة، فيها حساسية عالية للتفاصيل، وإلمام بالسياق، وطرح لأسئلة جديدة غير مُجاب عنها في العادة. إن وجود الصحفي في مركز القصة أيضًا مهم، فهو لم يكتب النصّ من مكتبه المنعزل بناءً على ما كتبه صحفيون سابقون، لكنه أخذ كل المعلومات من مصادرها الأساسية، وبحث عن الشخصيات بنفسه، وحاورهم في مساحاتهم الخاصة، وها هو يرى الآن القصة من منظور أعمق، ويسعى إلى تقديم مقولة جديدة دقيقة تعكس دقة في النتائج.
بالنسبة لميساء الهنائي التي تعمل معدة ومقدمة في بودكاست “حوار متطرف” الذي يناقش بأسلوب منفرد Solo podcast عددا من القضايا الاجتماعية بينها العنف الأسري وحماية التعدد في الآراء وغيرها، مستخدمة اللهجة العامية وبعض العبارات الشائعة الساخرة مع أصوات من الموسيقى العربية البديلة Alternative Music، فإن منح السرد الصوتي سمة شخصية قد يعد جانبا مثاليا لصناعة البودكاست في ظل شيوع البودكاست الحواري عربيا. تعتبر ميساء أن سمة التطرف قد “تبدو مخاتلة للتعبير عن صوت الأغلبية في كثير من الحالات”. وتقول: “إن السرد في إطار الحرية الشخصية ثم وسم ذلك بـ”التطرف” يتسم بالسخرية لكنها سخرية لا تلغي التنوع بقدر مساعدتي على التركيز والتعمق في أفكاري الخاصة. وتضيف في نفس السياق: ما أسعى لتقديمه يعد في إطار البودكاست السردي لذلك فإن استخلاص الأفكار والوصول لتسلسل ناجح لها يعد تحديا. إن مهمة الموازنة بين البحث عن الأفكار وتعزيزها بالمعلومات والصور الذهنية الخاصة ثم تشكيلها في إطار سردي يتطلب قدراً من الخبرة والتراكم التخصصي لكن بوجود فرق متخصصة تؤدي أدوارا تشاركية في بناء وتطوير المحتوى فإن العمل يصبح يسيراً.
الخلاصة
ثمة تجربة للبودكاست العربي عنوانها الحوار وسمتها الأساسية البحث عن المحتوى الجاذب لأغراض الترفيه والإمتاع والتثقيف وهي جديرة بالاهتمام؛ بيد أن حضور القضايا الأكثر تأثيرا في حياة الناس في ظل تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية للإنسان في المنطقة العربية يبدو متجاهلا لدى الكثير من صانعي محتوى البودكاست العربية إن لم يكن هامشيا في أحسن الظروف. لا يبدو أن الاتجاه لتصعيد الحوارات على حساب الاشتغال الاستقصائي على القضايا مبررا لغياب المعالجات المرغوبة لكنه وسيلة مساعدة في حدوث ذلك على أدنى تقدير. إن هذه دعوة للباحثين والأكاديميين لتقييم أثر هذه التجارب الحوارية في تعميق المحتوى العربي شكلا ومضمونا.
إن بوسع البودكاست “بقوته السردية وسهولة مروره بعيدا عن الحواجز الجغرافية كأي حالة صحفية رقمية جديدة” أن يشكل تمظهرا إيجابيا لتجمع عدد كبير من الأصوات وتمركزا جاذبا لموضوعات التعددية في التيارات.
معهد الجزيرة للإعلام