سليمان صالح
فرضت ثورة الاتصال على العالم أن يعيد التفكير في النظريات السياسية التي تطورت خلال القرنين السابقين، وأن يطور نظريات جديدة يتم على أساسها بناء مجتمعات تتمكن من التفاعل مع التحديات التي فرضتها هذه الثورة.. حيث فتحت شبكة الإنترنت مجالات للجماهير لكي تشارك في عملية إنتاج المضمون وتوزيعه بحرية، وشكل ذلك إمكانية لزيادة دمقرطة المجتمعات.
كما أن وسائل الإعلام الجديد يمكن أن تشكل مجالاً عاما يتبادل فيه المواطنون الخبرات والآراء، ويناقشون القضايا المختلفة بحرية، ولم تعد السلطات تستطيع التحكم في إدارة هذه المناقشة، أو السيطرة عليها.
وهذا فتح مجالا لتطوير النظرية الديمقراطية حيث يمثل مفهوم المشاركة بالحوار مكانة مهمة في عملية صنع القرار وعلاقات القوة داخل المجتمع، وهذا المفهوم لم يعد يقتصر على الانتخابات فقط، لكنه أصبح يمتد للتأثير على عمل المؤسسات السياسية.
في المجال العام الافتراضي
هذا يعني أن الإنترنت والإمكانيات التي أتاحتها لمشاركة الموطنين يمكن أن تساهم بعملية تغيير اجتماعي وسياسي في كل المجتمعات، وهذا يعتمد على مشاركة المواطنين في مجال عام افتراضي لتبادل المعلومات ومناقشة القضايا وعرض الآراء المختلفة.
وهذا المجال العام الافتراضي يمكن أن يتحول إلى مجال عام حقيقي مثل الثورات والمظاهرات التي يمكن أن تساهم في تغيير الحكام، وترشيد عملية الحكم وصنع القرارات، وقد ظهر تأثير هذا التطور في ثورات الربيع العربي، حيث تحقق التكامل بين المجال العام الافتراضي عبر الإنترنت، والمجال العام الواقعي في الميادين.
كما أن قوة المجتمع ودرجة ديمقراطيته تعتمد على مشاركة المواطنين في مناقشة حرة في المجال العام الافتراضي والحقيقي.
مجال عام إعلامي جديد
كما شكلت ثورة الاتصال مجالاً عاماً إعلامياً جديداً، وأصبح هذا المجال أساسا لعملية تغيير اجتماعي وثقافي واسعة.. وأصبحت قوة الدولة والمجتمع ترتبط بمشاركة مواطنيها في هذا المجال، وقدرتهم على إنتاج المضمون وتوزيعه واستخدامه في التأثير على الآخرين لصالح المجتمع أو الدولة أو الأمة، وبناء مكانتها في العالم وعلاقاتها مع الشعوب وصورتها الذهنية. فكيف يمكن أن تستجيب الدول لهذا التطور؟ وكيف يمكن أن تزيد قدرات مواطنيها على بناء قوتها الإعلامية والاتصالية والمعلوماتية والمعرفية والتعليمية والثقافية؟
إن الدولة التي يمكن أن تزيد قوتها في القرن 21 هي التي تشجع مواطنيها، وتقوم بتأهيلهم للتفاعل في بيئة اتصالية جديدة تقوم على المشاركة وحرية إنتاج المضمون وتوزيعه.
دمقرطة وسائل الإعلام
كما فرضت ثورة الاتصال على وسائل الإعلام التقليدية (الصحافة والإذاعة والتلفزيون) أن تفتح المجال لمشاركة المواطنين، وأن تدرك أن مستقبلها يرتبط بأن تصبح أكثر ديمقراطية، وأن تطور مضمونها ليتناسب مع ثورة الاتصال.. وأنها يجب أن تكون جزءا من المجال العام الإعلامي بنشر المضمون الذي ينتجه المواطنون.
لذلك تطور مفهوم الصحافة العامة التي تتيح إمكانيات مشاركة الجمهور في إنتاج المضمون الصحفي وتغطية الأحداث، لذلك يجب أن يقوم الصحفيون بتطوير علاقاتهم بمجتمعاتهم وتشجيع المواطنين على مناقشة القضايا العامة، والبحث عن حلول لمشكلات المجتمع.
هذا يعني أن الإعلام الجديد فرض على وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحافة أن تعيد تعريف نفسها، وتجديد أساليبها في إنتاج المضمون لتفتح المجال للجمهور للمشاركة في مناقشة حرة للقضايا المجتمعية، وأن تستغل وسائل الإعلام الجديد في فتح المجال للمواطنين للمشاركة في إنتاج الأخبار وتغطية الأحداث والتعليق عليها.
وهكذا فرضت ثورة الاتصال على وسائل الإعلام التقليدية أن تطور وظائفها، وتبني علاقة جديدة بين الصحفيين والجمهور.
التلفزيون والمشاركة الجماهيرية
أما القنوات التلفزيونية فإن مستقبلها أصبح يرتبط بفتح المجال للجمهور للمشاركة في إنتاج المضمون، وأن تتحول إلى جزء من المجال العام الإعلامي الذي يتناقش فيه المواطنون بحرية.
فالمواطنون يمكنهم أن يصبحوا مصادر تقدم معلومات ورواية جديدة للأحداث تحقق التوازن مع الرواية التي تقدمها المصادر الرسمية.
وهكذا فإن مشاركة المواطنين في إنتاج مضمون وسائل الإعلام التقليدية تشكل مستقبل وسائل الإعلام بشكل عام، وتفتح المجال لتطوير وظائف الإعلام التقليدي والإعلام الجديد، كما تشكل أساس نظرية جديدة للديمقراطية.
إن ثورة الاتصال ساهمت في فتح المجال العام الإعلامي للمشاركة الجماهيرية، حيث يمكن أن يقوم المواطن بالمشاركة والتفاعل ونقل المضمون الذي قام بإنتاجه للآخرين، وبذلك يمكن أن يكون فاعلاً في بيئة اتصالية جديدة، وأن يساهم في تغطية الأحداث وتحليلها وتفسيرها، وفي زيادة القوة الاتصالية والإعلامية والمعرفية لدولته وأمته.
الديمقراطية ومكانة الدولة العالمية
لذلك فإن مفهوم الإعلام الجديد أكبر من مجرد تطور تكنولوجيا الاتصال والإعلام، فبالرغم من أهمية هذا التطور فإن الإعلام الجديد يشكل تطورا ثقافيا وحضاريا يمكن أن يساهم في بناء عالم جديد يتيح إمكانيات الاتصال بين الحضارات والثقافات المتعددة، ويتيح للشعوب أن تتعارف، وأن تكافح ضد الهيمنة الغربية.
لذلك فإن المشاركة الديمقراطية تزيد قوة الدولة وقدرتها على بناء مكانتها العالمية باستخدام شبكة من مواطنيها المؤهلين لتشكيل صورة إيجابية لها تقوم على أنها دولة ديمقراطية، تحترم حقوق مواطنيها في المشاركة في عملية صنع القرار، وتوجيه مؤسسات الدولة في البحث عن حلول جديدة للمشكلات.
لذلك تقوم النظرية الديمقراطية الجديدة على الربط بين المشاركة الجماهيرية وبناء المكانة العالمية للدولة وفتح المجال العام لمناقشة حرة.
بناء مفهوم الإعلام الجديد
لذلك فإن مفهوم الإعلام الجديد يحتاج إلى إعادة بناء، فهو عملية ثقافية تشمل نقل المعلومات وتبادلها بين مستخدمين يتشاركون في إنتاج المضمون.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم لماذا استخدمت ليندا فريدمان مفهوم ثورة الإعلام الجديد.. فهل يعني ذلك أن الإعلام الجديد يشكل ثورة تتميز عن ثورة الاتصال وثورة المعلومات؟
وتبرر فريدمان استخدامها لهذا المصطلح بأن كل إنسان يتأثر بالإعلام الجديد في حياته وأعماله ومنظمته، وأن الإعلام الجديد شكل عالما جديداً، وهذا العالم يشهد تحولات سياسية وثقافية واقتصادية لا تقل أهمية عن تلك التي شهدها العالم بعد الثورة الصناعية.
ونحن نضيف إلى ما تقوله فريدمان أن وسائل الإعلام الجديد شكلت عملية تثوير للاتصال والإعلام في العالم كله، وفرضت على الأفراد والدول أن تعمل على تطوير قدراتها الاتصالية، وتطوير نظمها الديمقراطية لبناء قوتها الاتصالية ومكانتها العالمية، وبذلك أصبحت قوة الدول في المستقبل تعتمد على تطوير نظمها الديمقراطية، وتوظيف ثروتها البشرية لبناء مكانتها العالمية.
لذلك فإن الإعلام الجديد ثورة تؤدي إلى عملية تغيير عالمي واسعة، فهذه الوسائل غيرت أساليب الناس في التعلم والاتصال والإبداع والمشاركة الديمقراطية.
وقد أصبح الاتصال باستخدام وسائل الإعلام الجديد يشكل حياتنا، لذلك فإنه يجب عدم النظر إليها من المنظور التكنولوجي فقط، لكن هذه الوسائل هي عملية تغيير ثقافي واتصالي واجتماعي.
كما غيرت وسائل الإعلام الجديد -كما يقول براديب وزملاؤه- عاداتنا في العمل والتعليم والعلاقات الاجتماعية وربما غيرت أمانينا وأحلامنا.
سلطة رابعة.. ولكن
بداية الثورة الفرنسية، نظر نائب في الجمعية العمومية إلى الشرفة التي يجلس الصحفيون فيها، وأشار إليها قائلا: هذه هي السلطة الرابعة.
وكان يقصد بذلك أن الصحافة أصبحت لها قوة لا تقل عن سلطات الدولة الرئيسة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
لكن معظم الدول عملت على التحكم في هذه السلطة، واستغلالها للتحكم في وعي الشعوب وفي تشكيل الرأي العام، وفي الكثير من الأحيان تجهيل الشعوب وتضليلها.
وفي الوقت نفسه استخدمتها الدول الغربية في تحقيق الديمقراطية والتقدم.
فما تأثير وسائل الإعلام الجديد مقارنة بالصحافة والراديو والتلفزيون؟
لقد تطور الإعلام الجديد بشكل أسرع من الصحافة والراديو والتلفزيون، وزادت شعبيته، وقد استخدمتها بعض الشعوب لتطوير ثوراتها وفرض إرادتها والتغلب على تحكم النظم في وسائل الإعلام التقليدية، وتعتبر ثورة 25 يناير 2011 في مصر نموذجا مهما يؤكد أن زمن التحكم في تدفق الأنباء والمعلومات والمضمون قد مضى، وأن الشعوب أصبحت قادرة على أن تتبادل المعلومات والمعرفة رغم أنف السلطات والنظام الإعلامي العالمي والشركات عابرة القارات.
وهذا يعني أنه إذا كانت السلطات قد نجحت عبر فترات طويلة من الزمن في التحكم بوسائل الاتصال الجماهيري التقليدية.. فهل يمكن أن تنجح هذه السلطات والشركات عابرة القارات في التحكم بوسائل الإعلام الجديدة؟
هذا السؤال يحتاج إلى إجابة إبداعية تشكل أساسا لإستراتيجيات اتصالية طويلة المدى، وعملية إعداد للكثير من الكوادر المؤهلة لبناء صناعة مضمون جديد يتناسب مع التغيرات في بيئة الاتصال.
ديمقراطية جديدة.. لماذا؟
في ضوء ذلك يمكن أن نحدد أهم الأسس التي تقوم عليها نظرية جديدة للديمقراطية بالقرن 21 فيما يلي:
= فتح المجال العام لمناقشة حرة تشارك فيها اتجاهات سياسية وفكرية متنوعة.
= يشارك المواطنون في إنتاج المعرفة وتبادلها عبر وسائل الإعلام الجديد.
= تفتح وسائل الإعلام التقليدية المجال للمواطنين للتعليق على الأحداث، وتبني علاقة جديدة مع المواطنين.
= المشاركة الجماهيرية تساهم في تطوير وظائف المؤسسات الديمقراطية.
= تستخدم الدولة ثروتها البشرية في بناء صورتها كدولة ديمقراطية ومكانتها العالمية وقوتها الاتصالية.
= إن استجابة الدولة للرأي العام تزيد وحدة المجتمع وتماسكه، وقدرته على التوصل لحلول جديدة لمشكلاته.
(الجزيرة/ مدونات)