علي الإبراهيم
باتَ البودكاست الاستقصائي يحظى بشعبية واسعة بين المستمعين، خاصة وأنّ سرد البودكاست لهذا النوع الصحفي يحاكي التحوّلات والتطورات المتعدّدة في شكل ومضمون التحقيق الاستقصائي، ويعالج قضية من الواقع لا تزال جوانبها غامضة، ويحقق فيها من أجل تقديم تفاصيل صوتية جديدة ومقنعة، عبر أدلة وتجارب وقياسات، بهدف إزاحة الغموض عنها.
جاءت كلمة البودكاست اشتقاقًا من كلمتي الإذاعة (Broadcast) وآي بود (iPod) لتعبّر عن البرامج الإذاعيّة حسب الطلب، فيمكنك الاستماع للبودكاست في أي وقت ترغبه، وتتنوّع فئات البودكاست، فمنها الوثائقي والدراما والكوميديا والرياضة وصولاً إلى الاستقصائي وغيره.
ويتميز البودكاست بتحرّره من قيود النشر، وسرعة الوصول إليه، وسهولة تلقي محتواه، إذ لا يحتاج سوى للاستماع في أي مكان وزمان، وهذا ما يشكّل بيئة مناسبة لنشر الصحافة الاستقصائية، بحيث يصبح من السهل التحكّم في مدة البثّ ومتابعته. وبحسب خبراء، يختلف البودكاست عن الراديو في طريقة البث، والجمهور، والمواضيع، ومنصات النشر ومنصات الاستماع. وتتكون المدونات من حلقات منفردة أو من سلسلة حلقات، وتعتمد في بنائها على الموضوع العام، وزاوية المعالجة والمحاور والضيوف والجمهور المستهدف.
في هذا المقال، أقدم دليلاً للتدوين الصوتي الاستقصائي (البودكاست) وكيفية استخدام الرواية الصوتية في التحقيقات الاستقصائية.
يحمل عالم البودكاست في منطقتنا العربية حاليًا عددًا من التجارب، أبطالها صحفيون ومنتجون بمساعدة فنيين قرروا إيصال صوتهم والتخاطب مع الجمهور بطريقتهم عبر الصوت من بينها سلسلة بودكاست استقصائي كنتُ قد شاركت بها وهي من إنتاج “صوت” والوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وبالتعاون مع موقع درج.
في هذه السلسلة التي نشرت قبل أشهر سردت ناجيات وقائع استعبادهنّ جنسيًا والاتّجار بأجسادهنّ في أحد سجون سوريا، استمعنا للناجيات السوريات لنفهم السياق ونواجه المتّهم، وطرحنا أسئلة حول فرص المحاسبة وشكل العدالة التي يمكن تحقيقها.
ونتيجة لهذه التجربة التي امتدت لأكثر من سنة لإنتاج هذه السلسلة، يمكنني تقديم دليل للراغبين في دخول عالم البودكاست الاستقصائي.
تتضمّن عملية إنتاج البودكاست الاستقصائي عدة مراحل هي:
● الفكرة: تتمثل الخطوة الأولى في إيجاد فكرة فريدة من نوعها تتمحور حول موضوع معين مثل الانتهاكات، والسياسة والتكنولوجيا أو الترفيه أو أي موضوع بشرط أن يقدم معلومات جديدة تثير انتباه المستمعين.
● التخطيط: بمجرد الحصول على فكرتك، من المهم التخطيط لهيكل وتنسيق البودكاست الخاص بك. هل سيكون عرضًا منفردًا أم سلسلة تضمّ ضيوفًا مرتبطين بالقصة. هل ستكون القصة عفوية أم سيتمّ التخطيط لها على شكل سكريبت. هذا سيساعدك في إنشاء بودكاست متماسك وجذاب.
● المعدات والبرامج: لبدء البودكاست الاستقصائي الصوتي، ستحتاج إلى بعض المعدات الأساسية مثل ميكروفون عالي الجودة Zoom H5 Handy Recorder أو مسجل جهاز الهاتف الذي تستخدمه إضافة إلى سماعات رأس وجهاز كمبيوتر. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج إلى برنامج بث أو محطات عمل صوتية رقمية (DAWs) لتسجيل الحلقات الخاصة بك وتحريرها، مثل Adobe Audition.
● التسجيل والتحرير: في البودكاست الاستقصائي ينصح بأن يكون الصوت الطبيعي المحيط بالتسجيل خلال المقابلات أو التنقل والبحث جزءًا من القصة حيث تساعد المستمعين في الدخول إلى عالم التحقيق. يمكن للصحفيين الاستقصائيين استخدام أدوات التسجيل أو إجراء تسجيل في مذكرات الصوت على هاتف آيفون. بمجرد التسجيل، قم بتحرير حلقاتك لتحسين جودة الصوت وإزالة الأخطاء وإضافة الموسيقى أو المؤثرات الصوتية، وضمان تجربة استماع مميزة.
● الاستضافة والنشر: لإتاحة البودكاست الخاص بك للمستمعين، ستحتاج إلى نظام أساسي لاستضافة البودكاست. تقوم هذه الأنظمة الأساسية بتخزين ملفات الصوت الخاصة بك وإنشاء موجز RSS، يسمح لأدلة البث مثل Apple Podcasts وSpotify وGoogle Podcasts بتوزيع حلقاتك. تشمل منصات الاستضافة الشهيرة مثل Libsyn وPodbean أو منصة ذاتية للمشروع، وهذه خدمة توفر كل ما تحتاجه لإنشاء وتحميل البودكاست الخاص بك، بالإضافة إلى استضافته وتوزيعه.
● الترويج والمشاركة: بعد نشر البودكاست، يتم الترويج له عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو موقع الويب. هذا يساعد في تشجيع المستمعين على الاشتراك وترك التعليقات ومشاركة الحلقات وتحقيق التأثير المتوقع.
ويتطلب إنشاء بودكاست استقصائي مزيجًا من مهارات التفكير الفني والإبداعي، فضلاً عن الالتزام بمعايير وأخلاقيات الصحافة، إضافة لذلك:
● مهارات البحث والتدقيق: ينبغي أن يمتلك منشئو البودكاست الاستقصائي مهارات بحثية متقدمة لاستكشاف الحقائق والمعلومات التي يصعب الوصول إليها، وتتضمن معرفة كيفية استخدام محركات البحث وقواعد البيانات والسجلات العامة للعثور على المعلومات ذات الصلة، ومن ثم تدقيق هذه المعلومات والتحقق من صحتها. ومن أهم تجارب البودكاست الاستقصائي في البحث والتدقيق هو بودكاست “Serial” الأميركي الذي انطلق عام 2014 ويعدّ تجربة سبّاقة حققت أعلى متابعة على مستوى العالم فيما يتعلق بتحميل حلقاته، وهذه السلسلة هي الأشهر عالميًا، تقدّمه الصحفية الاستقصائية سارة كوينغ. وقد حاز البودكاست على العديد من الجوائز العالمية الكبرى التي تُمنح في هذا المجال.
● مهارات سرد القصص: يعتبر البودكاست الاستقصائي من أصعب أشكال السرد القصصي الصوتي، لذلك يجب أن يكون لدى فريق العمل مهارة السرد بطريقة مشوقة وأن يكونوا قادرين على تنظيم حلقاتهم بطريقة تجذب المستمعين وتجعلهم يتابعون التحقيق أو السلسلة الاستقصائية التي تم العمل عليها. يمكن الاستماع والاستفادة من تجربة بودكاست “احتيال” الاستقصائي الذي يستكشف عوالم المحتالين وكيفية السرد.
● مهارات إنتاج الصوت: يجب أن يتمتع منشئو البودكاست أيضًا بفهم أساسي لإنتاج الصوت، بما في ذلك كيفية تسجيل الصوت وتحريره وإضافة المؤثرات الصوتية والموسيقى واستخدام أدوات الصوت الأخرى لتحسين جودة البودكاست. يمكن الاستماع والاستفادة من تجربة بودكاست صوت “معلوم” وهي سلسلة تُبسّط العلوم للإجابة على أسئلة هامّة عن أنفسنا والعالم والكون.
● مهارات الصحافة: يجب على منشئي البودكاست الاستقصائي الالتزام بالمعايير الأخلاقية العالية، مثل التحقق من المصادر والتحقق من صحة المعلومات، وضمان دقة المعلومات المقدمة.
● مهارات إجراء المقابلات: إجراء المقابلات هو جزء أساسي من الصحافة الاستقصائية، لذلك يجب على المبدعين معرفة كيفية طرح الأسئلة الفعالة، والاستماع بنشاط، وبناء علاقة مع من تجري معهم المقابلات.
● مهارات التفكير النقدي: لإنشاء بودكاست استقصائي مقنع، يجب أن يكون المبدعون قادرين على تحليل القضايا المعقدة وتحديد اللاعبين الرئيسيين وربط النقاط بين أجزاء مختلفة من المعلومات.
● مهارات التعاون: تتضمن ملفات البودكاست الاستقصائية فريقًا من الباحثين والمنتجين والصحفيين، لذلك يجب أن يكون المبدعون قادرين على العمل بشكل تعاوني والتواصل بشكل فعال ومشاركة المسؤوليات لإنتاج محتوى عالي الجودة. يمكن الاستماع والاستفادة من تجربة بودكاست فنجان من ثمانية.
ويشير دليل “المبادئ الأولى للوثائقي الصوتي” لمؤلفه جوناثان زنتي، وهو مقدّم بودكاست ومنتج إذاعي إيطالي إلى أنّ البحث وجمع المعلومات هما من أبرز خطوات نجاح البودكاست. وعليه ينصح بالانتقال إلى مواقع الأحداث أو الأماكن المرتبطة بالقصة، أو عن طريق البحث وقراءة كل ما نشر عن القضية في القنوات المتاحة، مثل الإنترنت، الصحافة، المطبوعات، التسجيلات ذات الصلة، إلخ.
وفي جلسة سابقة من جلسات المؤتمر العالمي لتمكين الحقيقة “Empowering the Truth”، الذي قدمه المركز الدولي للصحفيين بدعم من مؤسسة سكريبس هوارد، خلال شهر مارس/آذار 2023. ألقت الجلسة الأولى من المؤتمر، تحت عنوان “رواية القصص الصوتية المتقدمة للصحفيين”، الضوء على احتمالات توظيف الصوت بمختلف عناصره للوصول إلى سرديات تدعم الحقيقة وتكسر المعلومات المُضللة. وقام بتأطير الجلسة المدرب سليم سلامه، وهو منتج بودكاست، حيث أشار إلى أنه لا يوجد قوالب محددة للبودكاست ولكن من بينها:
● القالب الوثائقي/الاستقصائي: وهو عادة ما يغطي الموضوع أو القصة المستهدفة عبر سلسلة من الحلقات. حيث يتم اختيار المدونة الصوتية لسرد القصة بسبب التكلفة المادية الأقل مقارنة في الوسيط المرئي. كذلك حساسية المواضيع المطروحة “بصريًا”، أو بسبب الصعوبة الوصول للأماكن. إضافة لذلك فإنّ الحفاظ على هوية الأشخاص و”خصوصياتهم”، حيث يمكن تغيير أصوات المتحدثين بسهولة، مع القدرة على إعادة التمثيل عبر الأداء الصوتي، أو الاستعانة بأرشيف صوتي أو بصري أو مكتوب، مع وجود منصات النشر مجانية، بجانب السرعة في الوصول للجمهور.
شبكة الصحفيين الدوليين