رميسة الصغير
إن الإعلام كما أفصح غريغوري باتسن: هو التباين الذي يصنع التباين، وفي زمنٍ يشهد تسارع وتيرة انتشار الأخبار، ازدحام الجرائد وكثافة التدوينات، وفي بيئةٍ عربيةٍ يتحكمُ في إعلامها، أوجد الإعلام للكلّ فضاءً للتعبير، للإخبار، كسراً للزمكانية تصلناَ المعلومات والأحداثُ أولا بأول، وبهذا يعتبر الإعلام الجديد مرحلةَ متطورة فتحت الفرصً من خلال وسائله وأدواته للكلّ أن يكونَ إعلامياً.
لكن كيف ينبغي أن يكون حالُ الإعلامي الذّي يصنع هذا التباين؟ الإعلام اليوم بات لغة وتوجها وتربية، بل أضحى يسهم بقدر هائل في تشكيل مفردات هذا الجيل، لكن بالعودة قليلاً والتمعن الجيد في الوظائف والمقاصد الحقيقة التي يُعنى بها الإعلام بمختلف وسائله نلحظُ تعدّيا صارخاً من الذّين تسميهم وسائلُ الإعلام اليوم إعلاميين، إلا أنني لا أعتبر كلّ من يبثُ معلومةَ أو خبراً إعلامياً، فالمواصفات والمقومات التيّ تعبّر عن كون الإعلامي إعلاميا ناجحاً لم تعد تتوفر.
فهلْ يدركُ فعلاً إعلاميّو اليّوم المسؤولية المنوطة بهم؟ إن الإعلام ليس مهنة من لم لا مهنة له كما تعرفُ اليوم القنواتُ توظيفا للأجمل والأكثر رشاقة، بدل الأكفا، إنه السمة المميزة لصناعة وتحريك العقول وتغيير التوجهات، فهو بحاجة لعودة النخبة والمثقفين وسحبه من الذين يرتزقون من خلاله بإشاعة وتبعيةٍ وطمعٍ مادّي، ذلك ببذلِ الجهود لإيجادِ إعلام بديل هادف يرقى بالإنسان نحو ضالّته.
وإن كنّا نلحظ اليوم بشكل مثير تضاعف الكم على حساب الكيف واختلاط الحابل بالنّابل وضياع القيم في ظل انتشار التفسخ الأخلاقي وتفشي التضليل الإعلامي وممارسة الاستحمار، اعلامنا العزيز يحفظ عن ظهر قلب سمفونية تقليد البرامج والمواد الصحفية بدل توليد الأفكار وبلورتها مع متطلبات المجتمع، مادام الإعلام وجد لخدمة المجتمع بكل فئاته، وفتح آفاق المساهمة في التّربية والتّعليم من خلال مضامين مدروسةَ تتماشى وحاجياته، لكن حينما قُلبت الأولوياتْ وغيُبتْ أقلامُ النّخبة بسياسة تكميم الآراء وتقويض حريّتها وحوصر المبدعين نحن ندفعُ النتائج بأشباهِ إعلاميّن لا يعالجون القضايا معالجةً حقيقيّة، بل بمعالجة اعتباطية سطحية تقودها الإثارة.
ناهيك عن اللغة التي تشهد انتحارا واضحا حيثُ أصبحت الرداءة تستحوذ على أغلب ما يُبث، فبدل أن يصنع الإعلامي وعياً ويغير قناعة ويغرس سلوكا ً بات يساهم في ضحالة الفكر، فالجهوُد الإنتاجية تضيعُ اليّوم بسبب السياسيات الفاشلة بدل أن توجّه لنهجِ تخطيط إعلاميٍ رشيد يحترم المتّلقي ويعتبره محوراً هاماً في العملية الاتصالية ويضع نصب عينه ضرورة إرضائِه وتلبية حاجياته الفكرية، الثقافية والمعرفية.
فالإعلامي الذي نريد اليوم هو من يؤمن بأن الرسالة الإعلامية الهادفة يجب أن تصل للمتلقي عبر مرسل يقدّس حدود الموضوعية ويتقن معالجة الأخبار والمعلومات بعقلية لا تؤمن بسياسة الولاءات، بل بروح المبادرة مع الإحساس بجسامة المسؤولية الاجتماعية التّي تفرضُها المهنة أخلاقياً. نحن نعيش رحلة البحث عن إعلامين يؤمنون بالحرية والاستقلالية، يملكون من الجرأة، النزاهة والشفافية قدراً شاسعاً نبحث فعلاً عن إعلاميين يحترمون العقول باحترام الأذواق والخصوصيات، وإعطاء الثقافة، اللغة، القيم والأخلاق مبلغها الحقيقي في كل مادة إعلامية تنتج.
بل نريد إعلاما متقيدا بضوابط أخلاقيات المهنة، والثقافة البناءة التّي تساهم في بناء الإنسان وتحفظُ موروثه. نحن بحاجة ماسّة اليوم لإعلامي يوسّع سعة نظره بدقة وشمولية في آن واحد ليقود التحولات المجتمعية والسياسية والاقتصادية وكل القضايا المفصلية، ليسير بأوطانٍ ينشدُ أبنائُها التغيير. كمواطنين نأمل وجود إعلامي يسعى لتقديم محتوى فني مناسب، يليق بتحديات المرحلة التي نعيشها، يقف مسؤولاً أما التحدّيات متبنياً صورة إيجابية لحركة التنمية مع الاعتراف الكامل بالمشاكل أو الإخفاقات.
وإذ نحتاج إلى رسكلةٍ تعالج المحتوى الإعلامي ليكون إعلاماً معبّراً عن كل فئات المجتمع واهتماماته في إطار الحفاظ على القيم والمبادئ التي تحفظ للمجتمع وحدته وتصون للوطن خصوصيته، إعلاما قادر على النقد والسّهر على المصلحة العامة. نحتاج وقفة تأمل حول تراجع مفهوم خدمة الأهداف التّي كان لأجلها الإعلاميُ إعلامياً خادماً للوطن والدّين، آخذا على عاتقه توعية المجتمع، فاتحاً فرص التثقيف وصناعة الوعي حول ضرورة التنمية في جميع المجالات، ومرسخاً لآفاق السياحة والفلاحة والاقتصاد.
وإن كنتُ بالمقابل أحترم ما أفرزه الإعلام الجديد من قلبٍ للأولويات بحيثُ يعتبر وصول معلومةٍ عن حربٍ أو سقوط غارةٍ في أحد المناطق السورية ذا أهميةٍ كبرى على أن يتم النظر في كون المرسل صحفياً حقيقيا أم لا.. أدعوا لفتح باب التساؤل والتعمق فيما يعرفُ بصحافة المواطن حسب أحد المواقع مفادها (أن المواطن يصبح صحافيا قادرا على النشر والإعلام، والتأثير في الرأي العام، والمساهمة في عرض القضايا والأفكار والموضوعات من دون الحاجة الى أن يكون صحافيا محترفا).
والنّظر بالمقابلِ في التكوينات المكثّفة التّي تقودها المؤسسات الخاصة والتّي تفتح لها وسائل الإعلام الأبواب على مصراعيها للتوظيف دون احترام لما تفرضه أخلاقيات المهنة الإعلامية والمواثيق المقننة لرجال المهنة. كما أوجّه من هذا المنير كلمةَ للطاقات التي برزت في عالم التدوين العربي أن تلتزم بطرح أفكار وقناعات أمام جماهير أضحت تتابعُ بإسهاب، مضامين جادّة تلتزم بقضايا المجتمع والعمل على تنشئته، فالتغيرات والمستحدثات التي تمس الفضاءات الإعلامية الحرّة تأخذ مكانها الآن، ما يستوجب تفطّن الإعلامين لخلق فرص لهذا الجمهور المتابع، باستثمار هذه الوسيلة بشكل فعّال يعود بالنفعِ العّام.
ختاماً أؤكد أن الإعلامي بحاجة لأن يعيد النظر في مواده التّي يصنعُها صناعةً تفرُضها وسائل الإعلام، في تحقيقه لاحتياج الجمهور للأمان ودفعه لاتخاذ القرارات الصائبة وفهم العالم من حوله، فصناعة الرّأي العام انحازت عمّا يجب أن تكون عليه في تكوين الآراء والاتجاهات، كما ضاعت كثير من وظائف التّرفيه والإمتاع بين غياهب الإثارة التّي يتقاطر عليها من يسّمون أنفسهم اليوم رجال الإعلام.
ثمّ إن الإعلام بمختلف تخصّصاته علماً يدرس له شروطه وتقنياته فنونه وآلياته، وصناعة من الصناعات الثقيلة لمن يحسن صنعها فالذي الذّي لا يقدر على التخطيط الإعلامي للتحكّم في المضامين على أنّ لا تقتصر مهمتها في التعبير وتصوير حال المجتمع فقط، بل مسؤولية جسيمة لصناعة مجد هذه الأمة، لا يسجلّه التاريخ إعلامياً دخلَ سجلاتِها.
حقيقةَ لا تنظيراً مؤمنةٌ بأن لكلّ إعلامي ميولُاته وتوجهاتِه، لكن المهنية تفرض أن تعتلي سلّم الأولويات، فالانتماء لها يستحقُ أن تكونَ خيارً ثابتاً كثوابتنا الوطنيّة وأكثر، هذا الاستهتار بقدسية المهنة فتح الباب أمام المرتزقة والدخلاء لأنْ يتهاطلوا على المجال من كلّ فجٍ عميق، لاعتلاء منصة التحرير التنشيط والتقديم، لنَقُل منصة التأثير التّي يحققّها الإعلام.
إني أردت أن أشير هنا إلى أن المهنة الإعلامية لها من القدسية التّي تحفظ لها أهدافها النبيلة ووظائفٌها التنموية والتوعوية، فالإعلامي الذي لا يتحلى بالموضوعية وكثيرٍ من المصداقية، لا يخولٌ له أن يلبس عباءة الإعلامي المميز الذّي يحمل على عاتقه همّ الأمة، ليحقق حديثَ الرّسول القائل (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). هذه المسؤولية التي تنوء بحملها العصبة أولي القوة يتحقق فيهم قولُ (هو ذا الإعلامّي الذّي ينبغي أن يكون).
مدونات الجزيرة