سليمان صالح
يحتاج الفرد إلى المعرفة كي يتمكن من بناء رؤيته للعالم ويحدد موقعه فيه ويدرك كيف يتصرف ويحقق النجاح، وإذا كانت وسائل الإعلام أداة الوصول إلى المعرفة فعلى كل مجتمع أن يدرب أبناءه على التعامل الصحيح مع تلك الوسائل، وتنمية قدرتهم على اختيار الأصلح منها، ونقد المضمون الذي تقدمه.
والسؤال الذي يمكن أن يطرحه كل فرد على نفسه: ماذا أعرف عن العالم؟ والإجابة التي يمكن أن تتوصل إليها أن معرفتك محدودة ولا تمكنك من إصدار أحكام صحيحة أو صياغة رأي في قضية عالمية.
ولأن الإنسان عدو ما يجهل فإنه يمكن أن يستجيب للحملات التي تشنها الجهات المسيطرة على الإعلام ضد (أو لصالح) أي شخص أو فكرة أو دولة، فتشكل اتجاهات الرأي العام حيالها.
أميركا تمثل النموذج الأبرز للسيطرة على الإعلام، لا داخل حدودها فحسب بل عالميا، فهي تتحكم في تدفق الأنباء والمعلومات، فتسمح بمعرفة ما تريد وتحجب المعرفة التي تساهم في زيادة القدرة على الكفاح ضد الاستعمار والرأسمالية، فلا تستطيع الشعوب المشاركة في الكفاح لتحقيق التحرر والاستقلال.
تجهيل الشعوب الغربية
من سافر إلى الغرب سائحا أو دارسا في إحدى جامعاته اكتشف حقيقة مهمة هي جهل الشعوب الغربية بالعالم، فالمثقف منها لا يعرف عن مصر سوى الهرم والفراعنة، ولا يعرف عن العرب سوى الصحراء والجمل.
لقد حرمت المنظومة الإعلامية الشعوب الغربية من المعرفة عن دول الجنوب، وبنت لها صورة نمطية سلبية تثير الخوف لكي تتحكم أميركا في اتجاهاتها حيال تلك الدول وتبرر العدوان على أرضها أو مقدراتها.
“نقص المعرفة” يزيد تقبّل الشعوب الغربية الصورة النمطية التي يرسمها إعلامها لشعوب أفريقيا وآسيا، صورة تقلل من إنسانيتهم وتصورهم برابرة متخلفين أقرب إلى الوحوش، ويحتاجون إلى الغرب لتمدينهم ومساعدتهم على التخلص من نظم حكمهم المستبدة، وتخفي ذلك الدور الأميركي الواضح في إسقاط التجارب الديمقراطية العربية وفرض حكام مستبدين يخضعون الشعوب للسيطرة الأميركية.
هذه العقلية الاستعمارية التي تتحكم في وسائل الإعلام الغربية والأميركية ليست حديثة الولادة، فقد روجت الصحافة الأوروبية الصورة النمطية ذاتها لشعوب الجنوب في القرن الـ19، فبررت الاستعمار الأوروبي لآسيا وأفريقيا والمذابح ضد شعوبها، وتواصل أميركا عبر إعلامها ترويج الصورة المستكبرة ذاتها التي تعد الساحة العالمية لمرحلة استعمارية جديدة لدول الجنوب تواصل فيها نهب ثرواتها.
نحن إزاء منظومة إعلامية مسيطرة تقدم العالم بمنظور أميركي عبر التحكم في صناعة الأخبار على المستوى العالمي، وتضعف حياله قدرة الشعب الأميركي على تصحيح المسار، نتيجة الجهل “المخطط” بما يحدث في العالم، ولا سيما في جنوبه.
“الأخبار السلبية” أداة للإخضاع
يتعلم الطلاب في كليات الإعلام أن الخبر السيئ أفضل من الخبر الجيد، لأن الأخير يجذب انتباه الجمهور، فهل يشكل ذلك تفسيرا مقنعا لتركيز الإعلامي الغربي على الأخبار السلبية عن دول الجنوب وتجاهل الإيجابية؟!
يمكن أن تلاحظ أن دول الجنوب لا تظهر في الإعلام الغربي إلا عند وقوع زلزال أو بركان أو حرب أهلية أو مجاعة فيرتبط اسمها بالكوارث، ويُستخدم الساسة والإعلاميون هناك لإقناع شعوبهم بأنهم أفضل حالا وأكثر استقرارا ورفاهية من تلك الشعوب المأزومة، وأن عليهم لذلك أن يحرصوا على نظمهم الديمقراطية.
المنطق نفسه انتقل من الإعلام الغربي إلى الإعلام الذي تسيطر عليه السلطات في دول الجنوب، فدول الجوار لا تظهر في الأخبار -غالبا- إلا مقرونة بالكوارث، وتلك التي تتعرض لاضطرابات سياسية ويضطر سكانها للفرار من بيوتهم إلى حياة اللجوء تستخدم الروايات المغلوطة عنهم، لإقناع شعوب المنطقة بالخضوع للحكام المستبدين حتى لا يتعرضوا للمصير ذاته.
“الأخبار السلبية” بهذه الصورة هي وسيلة لإخضاع الشعوب، سواء في الشمال أو الجنوب، فلا أحد يحب أن يعيش تجارب مؤلمة عاشها غيره، في حين يسعى الجميع إلى تكرار التجارب الناجحة وللتعامل مع الناجحين، ولذلك يجب أن يقتصر النجاح على الحكام المستبدين وحلفائهم الغربيين الأقوياء، ويتم تجاهل أو تقليل المعرفة بالتجارب الناجحة في دول الجنوب كما هو الحال في تركيا أو ماليزيا أو سنغافورة.
التبعية الإعلامية وعقدة الدونية
وحتى إن اختفى القصد والعمد فإن وسائل الإعلام الجنوبية التي تديرها سلطات خاضعة لأميركا تقوم بتقليد وسائل الإعلام الغربية في تغطية الأحداث واختيار الأخبار، فتركز على أخبار أميركا وأوروبا وتتجاهل أخبار دول الجنوب، فنبقى أمام مفارقة أن دول الجنوب تمثل أكثر من 80% من سكان الأرض، لكن الأخبار التي تتدفق عن تلك الكتلة الضخمة لا تتجاوز 20% في كل وسائل الإعلام.
نحن نعرف عن أميركا وأوروبا أكثر مما نعرفه عن دول وشعوب تربطنا بها ثقافة وتاريخ وتجارب كفاح ومصالح مشتركة، وهذا يقلل من قدرتنا على التفكير في التعاون والمشاركة مع هذه الشعوب في تطوير تجارب كفاح جديدة لبناء المستقبل، والأخطر أن الصور النمطية السلبية التي ترسخت في العقول تدفع إلى التعامل مع الشعوب “المجاورة” بكراهية واحتقار.
ونتيجة لذلك يمكن أن نلاحظ بوضوح أن الكثير من المواطنين الجنوبيين -خاصة المثقفين- يعيشون في الجنوب بأجسادهم، فيما يعيشون بخيالهم في أميركا وأوروبا، ويتمنون الحياة في ذلك العالم المتقدم، ويحتقرون شعوبهم المتخلفة بدلا من أن يقودوا شعوبهم إلى التحرر من الاستعمار القديم والجديد وبناء نظم ديمقراطية تعبر عن هذه الشعوب وتستثمر ثرواتها.
لقد تعرضت دول الجنوب لإغراق معلوماتي عن تقدم الغرب، مما أدى إلى زيادة قابلية شعوبها للاستعمار والتبعية وزيادة الشعور بالدونية والعجز، وأن عليها أن تقبل دور المستهلك للمنتجات الغربية، وتكتفي ببيع ثرواتها “الخام”.
هذه الفكرة عن الذات عملت بريطانيا وفرنسا على غرسها في أذهان الشعوب الأفريقية والآسيوية طوال القرنين الماضيين، وتكفّل المثقفون المتغربون بتدمير ثقة تلك الشعوب في نفسها، مما أفشل أحلام وخطط التنمية في كثير من الدول.
في مواجهة التحيز
وبذلك، فقد ساهم التحيز الإعلامي في صنع مأساة الجنوب وإغلاق الطريق أمام مستقبله حتى لو جمع بين شعوبه دين وثقافة وتاريخ.
العلاقات الدائمة بين الشعوب تبنى على المعرفة والمشاركة في تجارب الكفاح لتحقيق أهداف عظيمة، فكيف نحقق ذلك ونحن لا نعرف بعضنا ونعتمد في معلوماتنا عن شعوب الجوار القريبة حضاريا وثقافيا وجغرافيا على إعلام عالمي متحيز؟!
ونحن لا نعرض هذه الصورة المؤلمة لنستسلم لها، بل لنزيد وعي شعوبنا بأهمية الدفاع عن حقها في الحياة، وتوفير المعرفة لشعوب العالم، وبناء منظومة إعلامية جديدة تقدم صورة حقيقية وعادلة للعالم.
الخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي أن نعمل على توعية شعوبنا بخطورة تحيز منظومة الإعلام العالمية، ونؤهل الكثير من نقاد مضمون وسائل الإعلام لكشف تحيزها، ويستطيع كل فرد واع أن يلعب دورا في هذا النضال مستخدما ما تتيحه التقنيات الجديدة من إمكانيات لكشف الحقائق، وتوفير معرفة للشعوب لا تقدمها المنظومة الإعلامية، وتفتح مجالات لاستعادة الثقة في الذات والتحرر من عقدة الدونية، وبناء علاقات جديدة تقوم على التعاون والاحترام وتبادل المعرفة عن تجارب الكفاح.
مدونات الجزيرة