
الخبر في تراث المجتمع الصحراوي
- محمد الفويرس
- المدونة
في زمن التطور المتسارع لتكنولوجيا الإتصال و تأثيرها البالغ على كافة مناحي حياة البشر بصفة عامة ، لم يعد من المبالغة القول بأن المجتمع البشري اليوم يعيش عولمة على مستوى أنماط الإتصال ، و انتفى بذلك شرط الخصوصية الثقافية المشكلة لقيم و أشكال التواصل لمجتمع دون آخر. وحدت مواقع التواصل الإجتماعي - وغيرها من الأشكال التواصلية الناتجة عن هيمنة الإنترنت و سيادة متغيرات الثورة الرقمية الراهنة- جمهورا واسعا من ثقافات و شعوب و أمم متخلفة ، و قد خلقت له عالما إفتراضيا بشروط و سنن و قوانين تختلف عن ما ألفه البشر من قبل .
في مراحل تاريخية سابقة على العصر الرقمي ، شكل التواصل شرطا ثقافيا و وجوديا يمثل سمة بارزة للنسق الحضاري والهوياتي لمجتمع ما يمتح من البيئة المحيطة و طبيعة الموروث الإنساني و التاريخي و الخصائص الجغرافية و الإجتماعية وغيرها . و احتفظت المجتمعات البشرية بخصائصها التواصلية التي تميز بعضها عن البعض بالنظر لمجموعة من المعايير ذات الصلة بالهوية الإثنية و اللسانية والجغرافية .
و يعتبر الباحث سعيد بنكراد، في كتابه "الصورة الإشهارية :اليات الإقناع و الدلالة "، التواصل "حالة إجتماعية تتحقق من خلال أنساق متعددة ينسج الأفراد داخلها سلسلة من العلاقات من طبائع مختلفة : اللغة و النسب و الجوار و التصاهر و الحاجات الإقتصادية ".و تجتمع هذه الحالات لتشكل مجمل الأنساق " التي من خلالها تشيد كل ثقافة قوانينها الخاصة التي تتحقق في السلوك وفي الفن و في العادات " .
ثقافة المجتمع الصحراوي في الجنوب المغربي ضاربة في عمق التاريخ و تستلهم مفرادتها و عناصرها من الطبيعة الجغرافية و المناخية للمناطق الصحراوية و الخصوصية الثقافية والتاريخية المشكلة للهوية الصحراوية . و قد عرف المجتمع الصحراوي على مر التاريخ- قبل إنصهاره في مراحل لاحقة خصوصا منذ ستينات القرن الماضي في حياة التمدن و العيش بالحواضر والمداشر - بغلبة و هيمنة حياة البداوة و الترحال ، وما يرتبط بهما من بحث أزلي و توق مستمر إلى الحصول على الماء و الكلأ كمصدرين للبقاء والوجود للأنام والأنعام على حد السواء .
وليس من المبالغة القول بأن المجتمع الصحراوي يحمل في جيناته هوسا بالمعلومة والخبر منذ القدم . فعلاقة الإنسان الصحراوي بالخبر علاقة وجودية مصيرية، وذلك لأنه دائم التساؤل والبحث –خصوصا في زمن البداوة – عن أخبار الأمطار والمراعي . وفي تراث أهل الصحراء ، نجد شخصيات كانت لها الأهمية القصوى و النصيب الأكبر من الإهتمام إعتبارا لإرتباطها الوثيق بالخبر والعلومة و المستجدات الراهنة في زمن كان التواصل ولقاء الأحبة و الأهل والأخلاء صعبا للغاية ، و كانت الوسيلة الأكثر إستعمالا للتنقل من مكان إلى اخر هي الجمال و الإبل –سفن الصحراء .
شخصية "البواه " كانت محورية في ذلك الزمن ؛ لأنه كان يكلف بالخروج من مضارب القوم نحو وجهات غير معروفة سلفا للبحث عن أخبار الأمطار وتواجد المراعي الخصبة . و بناءا على تقاريره الخبرية الشفهية، يتم إتخاذ القرار بالترحال أو البقاء إلى حين الحصول على المزيد من الأخبار والمعطيات .
و كانت شخصية "البراح ") المنادي باللغة العربية الفصحى ( محورية أيضا في عملية التواصل بين السلطة بمفهومها الشامل و العامة من جهة ، أو بين أشخاص عاديين . شخصية البراح لها حضور بشكل عام في التراث المغربي ككل ، وهو " الشخص الذي يعلن للعموم عن خبر معين، صادر عن ممثلي الجهات الرسمية، من سلطة مركزية أو قبيلة سياسية أو دينية أو قضاة أو شيوخ الزوايا والفقهاء، أو أعيان أو مجرد أشخاص عاديين".
البراح يمارس التبراح "الإعلان بالنداء " كمهنة و كأسلوب تواصلي لا محيد عنه في ذلك الزمن بسبب غياب أدوات للتواصل أكثر نجاعة و "جماهيرية " توصل المعلومة لأكبر عدد من الجمهور المستهدف .و يكون "التبراح " عادة أمام المساجد و الأسواق التقليدية وغيرها ، وقد برز دوره المحوري بالنسبة للمجتمع الصحراوي في بدايات إقناع المستعمر الإسباني للساكنة الأصلية بضرورة العيش في المدن و المداشر الحديثة التشكل .
بعض الشخصيات التراثية المرتبطة بالخبر مثل "البراح " انمحى إسمها في الوقت الراهن ، و تم الإحتفاظ بها في الذاكرة الجمعية، في حين لاتزال تحتفظ شخصية "البواه " ببعض من بريقها و حضورها المميز رغم تغير أدوات التنقل و طرق "التبواه " بإستعمال أدوات الإتصال الحديثة مثل الهاتف النقال ، والذي سهل الكثير وقرب المسافات .
في العصر الرقمي ، يرفل المجتمع الصحراوي مثل باقي المجتماعت البشرية في نعيم التقنية و التطور المتسارع لتكنولوجيا الإتصال ، والتي أطلقت رصاصة الرحمة على ما تبقى من خصوصية تواصلية لكل مجتمع على حدى .بيد أن الإنسان الصحراوي لا يزال يحتفظ ببعض مقومات الخصائص التواصلية للمجتمع الذي ينتمي إليه مثل الهوس بالخبر والمعلومة و إستعمال الكلمة المفتاح "اشطاري " في كل عملية تواصلية بكل أبعادها و حمولاتها الدلالية و الإجتماعية ."اشطاري " كلمة باللغة الحسانية بصيغة سؤال تعني " ما الجديد " ، وهي كلمة جوهرية تسبق العملية التواصلية وتعد بمثابة دعوة للشروع في الحديث و كسر جليد الصمت أو باقي منغصات التواصل الأخرى .